طفل يقف ببدلة الفتوّة (مادة التربية العسكرية) ذات اللون الخاكي المرافق للعسكر وطلّاب المدارس السوريّة حتى عام 2003. يحدّق في العدسة مباشرةً، غير آبه بالمطر المتساقط فوقه. يتحوّل الماء إلى دم لدى مروره به نحو أرض المدرسة المهجورة، التي يقف في ساحتها.
فجأة، يدوي صوت رصاصة قبل الإعتام. بهذا التأسيس الصريح، يفتتح الفوز طنجور (1975) جديده غير الروائي «ذاكرة باللون الخاكي» (110 د.)، منافساً على «المهر الطويل» في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، الذي اختتم أخيراً. طالب المرحلة الإعداديّة هو «أنا» السينمائي السوري نفسه alter ego، الذي تفتّح وعيه في أوج سطوة حزب البعث، إثر حسم الصراع مع حركة الإخوان المسلمين. طنجور فعلها سابقاً في التسجيلي «بارودة خشب» (2013، 64 د. - جائزة «الحريات العامة وحقوق الإنسان»، في «مهرجان الجزيرة الدولي التاسع للأفلام التسجيلية» 2013، وجائزة «الباندا الذهبي» في «المهرجان الآسيوي الدولي للأفلام الوثائقية» في الصين 2014). إذ عادل الحديث عن تداعيات الحرب الأهليّة اللبنانيّة بطفل لبناني، يلهو بألعاب القنص والتدمير. منذ «شمس صغيرة» (2007، 18 د. - التانيت البرونزي في «مهرجان قرطاج السينمائي» 2008، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في «مهرجان مونس» في بلجيكا)، جعل من الأطفال أبطاله الخارقين. هم حماة الذاكرة، وأهل المستقبل، و«أرواح متمرّدة» (2014) بشكل فطري.
هكذا، يشغّل الوثائقي غير المهادن آلة الزمن منذ الثمانينيات حتى اليوم، مروراً بمراحل وحكومات وسفر ومتغيّرات، لم يكن من ضمنها نظام الحكم أو مؤسّساته الراسخة. يعرض لتراكم شمولي وتعسّفي أفضى لانفجار عام 2011، بعد استقاء الأمل من ثورتي «الياسمين» في تونس، و«يناير» في مصر. بتعليق ذاتي مائل إلى الشعريّة، يخبر طنجور قصّته ابتداءً من نشأته في مدينة «السلميّة». يتذكّر هروبه من حصص القوميّة إلى سينما الزهراء، وكتابة الوظائف أمام «نوستالجيا» (1983) تاركوفسكي. يسترجع سفره إلى مولدافيا للدراسة نهاية التسعينيات، حاملاً في حقيبته مجموعة «رائحة الخطو الثقيل» (1988) لإبراهيم صموئيل (حصل على دبلوم في الإخراج السينمائي من «أكاديمية الموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية، قسم الفنون البصرية والدرامية» عام 2004). يتألّم لرحيله القسري إلى بيروت بسبب موقفه بعد الحرب، ثمّ هجرته إلى النمسا، ليصبح «بعيد قريب من تخوم الوطن» (2014). بين سوريا والأردن والنمسا وفنلندا وفرنسا واليونان، ترتحل الكاميرا خلف تغريبة إجباريّة. يبحث الفوز عن أشباهه، راوياً تاريخ معرفته بهم.

متفرّد عن وثائقيات ما بعد الحرب، ببحثه في الجذور الفكرية والعقائدية لما حصل
يحرّض ذاكرة الخاكي داخلهم، فيشرحون ما يرافقه من تدجين وقمع وهلع موروث. إنّه «يليق بنا»، و«متجذّر فينا»، و«في دم السوري، مع الكريات الحمر والبيض». يستحضر كل من الكاتب إبراهيم صموئيل والسينمائي شادي أبو فخر تفاصيل الاعتقال القاسية. يتلو التشكيلي خالد الخاني شهادةً عن أحداث حماة. تسترجع خالة المخرج أماثل ياغي سنوات التخفّي والأسماء المستعارة في حي الشيخ محي الدين، بسبب انتسابها إلى حزب معارض. الأحمر مرافق لبوحهم، سواءً في اللباس أو الأكل، في تلازم بين العسف و«الثورة». لا ننسى أنّ طنجور اعتمد اللون الثوري مبكّراً، واستمرّ به عبر الفيلموغرافيا (السيّارة والبالون في «شمس صغيرة»).
السيرة الذاتية تتقاطع مع سير آخرين (السيناريو للفوز طنجور مع لؤي حفّار). يُفتح السجال على مفاهيم كبيرة بتفاصيل شائكة: الدكتاتوريّة والحكم الشمولي، وتفرّد الحزب الواحد، وقناع الأيديولوجيا، ومساحة المعتقل الأصغر من إسطبل الأبقار، ومصير «الثورة السوريّة» ومآلها وتأثّرها بالمصالح الدوليّة. في تصدّ ناجح للمهمّة الصعبة، يعادل الفوز ذلك ببصريّات تنوس بين البانوراما والمنمنمات، مسخّراً «سينماتوغرافيا القبح» (تصوير أحمد دكروب) في التقاط الدمار، ورهافة التفاصيل في تصوير «دمشق سيمفونية مدينة» (2009 – يستعير من هذا الشريط) والشوارع والغابات والمطارات والمخيّمات. ينجذب خلف «نهاية بالون أحمر» في سوق الحميدية وسماء الشام، وأسماك معلّقة في طريق اللجوء. وسط كلّ ذلك، لا ينسى ترك مساحة للتأمّل الصامت، أو على وقع موسيقى كنان العظمة. لا بدّ من الشام في شريط لطنجور. دائماً ما يلعب على التفاعل بين حبّ المدينة وكرهها، بين دمشق المشتهاة والمكان المنتهك. هذا وثائقي حاد، مغامر، مضادّ لسطوة اللون الواحد أيّا يكن. يتفرّد عن موجة الوثائقيات السوريّة ما بعد الحرب، ببحثه في الجذور الفكريّة والعقائديّة لما حصل. يتعالى على الشتم والعويل لحساب الأفلمة. يسير على خطى العناوين الهامّة عام 2014 اشتغالاً وجودةً: «العودة إلى حمص» لطلال ديركي، و«ماء الفضة» لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان. يؤخذ عليه بعض الانجرار خلف ثرثرات جانبيّة، وتفرّعات مكرورة لا تصبّ في خدمة اختلافه (تخاذل المجتمع الدولي، مبدأ حمل السلاح...). كذلك، يركن إلى تكرار أفكار حول الخاكي، على ألسنة الرواة (توليف الفوز طنجور). «كنّا نشم رائحة الخراب». يتحدّث طنجور عن نبوءات الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن يتلقى الطفل الراكض في المروج الخضراء، رصاصة قنّاص متربّص. مجدّداً، صوت رصاصة ما قبل إعتام أخير، يغلق القوس على تاريخ من اغتراب الفرد داخل بلده.