لندن | ■ التشكيل العراقي متميز بخطوطه وألوانه وموضوعاته... كيف تكون اللوحة عراقية؟نشأت حركة الرسم العراقي على ثلاث قواعد أرساها الرواد الثلاثة للحركة الفنية العراقية، أي فائق حسن، جواد سليم، ومحمود صبري. وضع كل منهم قاعدة من هذه القواعد. فائق قدم لنا اللوحة الحديثة تقنياً وفنياً، وجواد ربط التراث بالمعاصرة، ومحمود صبري أكد على علاقة الفن بحركة المجتمع وحاجاته.

من هنا، نشأت الحركة الفنية العراقية متكاملة ومتوازنة وناضجة تماماً، إذا اعتبرنا ما كان قبل هؤلاء الرواد عبارة عن مرحلة التحضير للانطلاقة الحقيقية للفن العراقي المعاصر. ومن حسن الصدف أن يكون داخل حركة الفن العراقي مفكرون جماليون ومنظرون للفن ومحللّون يملكون ناصية الحرفة والثقافة معاً مثل محمود صبري، وجواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، ليظهر الفن العراقي ناضجاً - على قصر الفترة التي نما خلالها - كأنه يملك تاريخاً طويلاً وخبرة متراكمة. لهذا، ظهرت الجماعات الفنية في خمسينيات القرن الماضي وما تلاها كدليل على حيوية حركة الفن في العراق. لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أنّ هناك نسبة عالية من النتاج الفني العراقي، ظلّ تابعاً ومقلداً للحركات الفنية الأوروبية، ولا يزال هذا العيب سائداً مع الأسف، ليس في العراق فقط، وإنما في أغلب دول العالم الثالث، والمنطقة العربية على رأس هذه الدول. اهتم الفنان العراقي بالبيئة وتعمق في فهمها ولاحقها بصرياً وفنياً، وجعلها المنبع والملهم له، فكانت اللوحة العراقية ممهورة بهذه الصفة حتى في أبعد الأعمال عن الواقع مثل لوحات الرائدين جميل حمودي ومديحة عمر، التي يغلب عليها التجريد والرمزية واستخدام الحروف. وحين أعلن فائق حسن ولادة «جماعة الرواد» عام 1950، وجواد سليم ولادة «جماعة بغداد للفن الحديث» عام 1951، كان النتاج الفني العراقي قد عبر الحدود نحو العالم العربي والعالم. في المقابل، رافق التنظير حركة الفن العراقي، وأسهم في تقويم العملية الفنية وتصويبها نحو الوجهة الصحيحة.
لهذا، بات الفن العراقي اليوم يتمتع بمكانة مرموقة بين حركات الفن في العالم الثالث عموماً والمنطقة بصورة خاصة، بسبب متانة الحرفة والتنفيذ وارتباط الفن المعاصر بالتراث، إضافة إلى امتلاكه موقفاً واضحاً من الأحداث والتطورات الاجتماعية والثقافية التي يمر بها المجتمع العراقي.

■ الإنسان هو المعادلة الثابتة في أغلب لوحاتك، هل ثمة رسالة وراء ذلك؟
علينا أن نتفق على أنّ للفن رسالة إنسانية هادفة وعميقة المحتوى. وعليه، ليست هناك عملية ما من دون هدف، حتى في أبسط الأمور، ولا أظن أنك تجهل ما قيل حول الفن منذ أفلاطون حتى هذه الساعة من آراء مختلفة ومتناقضة أحياناً، إلا أنّ الفن ظل أداة مهمة من أدوات الإنسان في محاربته القبح والخراب والتشوهات التي رافقته منذ ظهوره على هذه المعمورة.
كان الفن منذ البداية مصدراً للحدس والتأمل والتأويل، وسلاحاً من أجل السيطرة على العالم المادي والروحي معاً. أدى دوراً سحرياً في مرحلة الصيد وجمع القوت، ثم دوراً دينياً في الفترة الزراعية التي تعدّ الأكثر تعقيداً ورمزية من بقية الأدوار، إذ حل محل القراءة والكتابة بسبب ندرة الذين يعرفون القراءة والكتابة آنذاك. أما في المرحلة الصناعية الأولى والثانية وحتى عصرنا الحالي، فإن دوره الثوري غير مخفي، رغم الصيحات التي تطالب بلا مرجعية الفن. أنا من الذين يعتقدون بوجود رسالة إنسانية مهمة يحملها الفن للبشرية. خذ سيمفونية بيتهوفن التاسعة «أنشودة الفرح» وتأملها، هل تعتقد أنها غير معنية بالألم البشري وتطلعات الإنسان إلى السعادة؟ وهل كانت جدارية «غيرنيكا» عملاً دعائياً ليس إلا؟ ماذا عن نصب الحرية لجواد سليم ونهضة مصر لمحمود مختار؟ هل هي أعمال بلا معنى ومجرد أشكال جميلة وتقنية عالية وحرفية ماهرة؟ أعتقد أنّ الفن اليوم يقوم مقام النصوص الشمولية والكتب المقدسة، لأنه يقدس الحياة وهي أثمن شيء يملكه الإنسان وسائر المخلوقات، بعدما اقترب الإنسان من حافة الدمار والفناء النووي الشامل والمهدد له مباشرةً.

■ ما زلت مرتبطاً بالتراث، رغم أنّ كثيرين يخشون الاقتراب منه؟
فعلاً، فالتراث مصيدة، لكنه بالنسبة إلي هو الجذور والمجتمع والعالم من حولنا. ليس هناك بناء مهما كان بسيطاً لم يقم على قواعد، والمعرفة تتبع المبدأ نفسه. أعتقد أن الذي لا يملك تراثاً (ماضياً)، لن يملك مستقبلاً. حين أراد مبدعو عصر النهضة زحزحة ظلام العصور الوسطى، يمّموا شطر الحضارة اليونانية وأخذوا منها ما نفعهم ونفع البشرية. وكانت بغداد في عزها وتألقها بابل العصر الوسيط، حيث صب فيها كل شعب ما عنده من تراث حضاري، فأغنى روحها التحررية ونفخ فيها حياةً جديدة لم تعرفها المدن الإسلامية قبلها ولا بعدها. أنا مثلاً أستشير الفنان السومري والآشوري أحياناً، كذلك أحاور يحيى الواسطي عندما أتلكأ في الوصول إلى حل لمشكلة فنية. كما أتصفح أعمال العديد من فناني عصر النهضة والعصر الحديث، لعلاج ما يعتريني من ضعف أو صعوبة ما. هذا الإرث الضخم والعميق ملك لنا جميعاً ابتداءً من رسوم الكهوف حتى يومنا هذا. وبما أني من أبناء وادي الرافدين، فإنا أقرب روحياً إلى فنون حضاراتها، وحضارة وادي النيل، أكثر من فنون الحضارة اليونانية والغربية عموماً، رغم فائدتها لي في تحقيق بعض الحلول النافعة فنياً.

■ في زمن يشهد عواصف سياسية واجتماعية واقتصادية، وإرهاباً يستبيح كل ما هو إنساني، ماذا بوسع اللوحة أن تفعله؟
كما أسلفت، هناك رسالة للفن لا يمكن نفيها مهما حاول بعضهم نكرانها. ما يواجهه المجتمع من أزمات، يواجه الفن أيضاً وهو يمرّ بالمشاكل نفسها التي تعترض الأفكار والمجتمعات والاقتصاد والسياسة والثقافة. لهذا نجد في كل مرحلة حركة فنية تناسبها وتتماشى مع متطلباتها وشروطها العامة. عصر النهضة أبعد القديسين والأنبياء والآلهة، ليعلن ميلاد الإنسان الفرد. وكدرة فعل، جاءت حركة الباروك بعد النهضة، لتعيد إلى السماء هيبتها، وجعلتها مسرحاً للأعمال الفنية، فامتلأت بالملائكة والبشر الطائر أو الجالس على الغيوم. وبعد اختفاء الروكوكو، جاءت الكلاسيكية الثانية ثم تلتها الواقعية، لتعيد العقل إلى الإنسان.
ومع اندلاع الثورة الفرنسية، أسقطت البرجوازية الحكم الملكي الإقطاعي. كانت الرومانتيكية سلاحها الفني الذي لا يضارعه سلاح. وكذا الحال بعد صعود نابليون، عادت الكلاسيكية لتشير إلى عودة الحكم المطلق مرة أخرى. ثم عادت الواقعية مرة ثانية تلتها الرمزية، فالانطباعية.. وهكذا مع كل موجة، ثمة أخرى تناقضها.
العمل الفني الأصيل يعكس روح العصر الذي يعيش فيه، ولن ينجح مهما كانت جودته، إذا لم يلامس متطلبات عصره ومزاجه العام وحركية مجتمعه في اللحظة المعنية. ورغم تاريخية العمل الفني، إلا أنّه يكتسب استمرارية وخلوداً مع الوقت بسبب صدقه في التعبير عن زمنه بالذات. الفن مرآة المجتمع وضميره الحي، وبإمكانه القيام بدور مهم، خاصة في الأزمات التي تواجه الإنسان. أعود إلى ملحمة جواد سليم ومعجزته «نصب الثورة» أو الحرية. هل هي صدفة أن يتجمع تحتها المحتجون في العراق اليوم ويتخذون منها شعاراً يكاد يطغى على العلم العراقي نفسه؟ هنا يكمن دور العمل الفني وقيمته ورمزيته كذلك.

■ ما اشتراطات المنفى على لوحتك؟
يقول الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي: «الوطن أعطاني الغربة والغربة أعطتني الوطن» وهذا ينطبق على نسبة عالية من المغتربين عن أوطانهم بالإكراه. الغربة جعلتني قريباً من وطني وتراثه الغني، وأمدّتني بمناعة حتى لا أفقد شخصيتي وكينونتي وثقافتي وتراثي. وفي الغربة، بدأت كفنان أفكر بالهوية بشكل جدي، ولو أنها كانت موجودة بشكل جنيني عندما كنت في العراق. وفي الغربة، حققت أول عمل فني أستطيع أن أدّعي أنّ له علاقة بالتراث الفني لحضارات وادي الرافدين. وبالمناسبة، لا تزال مناهج تعليم الرسم في العراق، تتبع أساليب تعلم الرسم في المدارس الغربية، وتسلط الضوء على تاريخ الفن الغربي. ولم يجر حتى الآن مناقشة هذه الإشكالية، بينما نملك نحن التراث الهائل من الإنجازات الفنية، لكنها لم تعرض ذلك التراث يوماً على الطلبة من أجل الدراسة أو معرفة قيمه الجمالية واختلافه عن القيم الجمالية للفن الغربي.

ليست مصادفة أن يتخذ
المحتجّون في العراق اليوم تمثال «نصب الحرية» شعاراً لهم


في الغربة تتعلم الكثير وإذا كنت غير حذر، قد تفقد الكثير، وهذا ما يجعل العديد من فنانينا يعودون إلى الوطن كأنهم أجانب لا عراقيون، مما يرسّخ حالات الاغتراب ونحن داخل أوطاننا. مع أنني أرى هذا النوع من الاغتراب نوعاً مفتعلاً وأقرب إلى التحذلق والتصنع منه إلى الحقيقي. في الغربة، تستطيع أن تنهل من تراث هائل من المعرفة والعلوم والثقافة الإنسانية، وتستطيع أيضاً أن توظفها لصالح أهدافك. لكن الغربة الحقيقية ليست في المكان الغريب فقط، بل في أن ترى من يطالبك بأن تكون مثله وتعمل حسب معتقده، ولا ينظر إلى تجربتك كحالة مختلفة ومغايرة لما تعوّد عليه، وبالتالي يعتبرك متخلفاً أو غير مساير للموجة السائدة في الحركة الفنية.

■ السمات الموجودة لدى جيلكم غير متوافرة في الأجيال اللاحقة، كيف ترى الجيل التشكيلي العراقي الحالي؟
لكل جيل صفاته وظروفه الخاصة، ربما كنا نحن جيل السبعينات ـ إن صحت هذه التسمية ـ من الأجيال المحظوظة، رغم العسف والعنف والجور الذي رافق العديد منا. فقد كانت هناك إمكانية في أن يتجاوز العراق مشاكله وينطلق نحو دروب البناء والعمران والتقدم. ورافقت ذلك تحولات هامة سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، لكن كما يقول الأشقاء المصريون: «الحلو ما يكملش». تم إجهاض كل المنجزات التي تحققت بسبب العقلية الضيقة وروح التآمر والخديعة التي اتصف بها قادة حزب البعث آنذاك، فتشوهت مفاهيم مثل التأميم وبيان آذار والجبهة الوطنية والخطة الانفجارية وتحديث المجتمع ومفاهيم التمدن. أما الأجيال التي جاءت بعدنا، فقد عاشت الكوارث الحقيقية والمآسي الكبرى، ونشأت على الرعب والخوف والموت المجاني والحروب، مع حصار دام أكثر من 12 سنة. مع ذلك، أنتجت أعمالاً فنية مهمة وظهر فنانون كبار ومبدعون في كل المجالات. وربما كانت التشوهات التي رافقت هذه الأجيال قد غطت على إنجازاتهم المهمة ولم يتعرف إليها جيلنا وسائر من غادر العراق منذ منتصف العقد السابع من القرن العشرين. اليوم، نرى فنانين عراقيين يزينون جدران متاحف العالم بكل فخر، ويعتبرون من أبرز منشطي الساحة الفنية في العديد من الأقطار العربية، خاصة في عواصم دول الخليج وعمّان وبيروت. في الوقت ذاته تعلن المزادات العالمية عن بيع أعمالهم بأسعار كانت تعتبر خيالية بالنسبة إلى فنانينا الرواد أثناء حياتهم.

■ أين يقف الفن اليوم ضمن الواقع العراقي الراهن.. كيف له أن يحيا وسط هذا الغليان؟
العراق يخوض غمار صراع غير سهل، بين التقدم إلى الأمام أو الارتداد إلى الخلف قروناً عديدة، وأشكال التعبير الفنية عن ذلك الصراع تعاني من المشكلة نفسها، أي التردد بين الهدفين. تستطيع معرفة ما هو رديء وما هو جيد من خلال ما يقام من تماثيل ونصب فنية حالياً، ومقارنتها بما كان موجوداً أصلاً قبل الاحتلال الأميركي. كذلك الحال مع اللوحة وغيرها من وسائل التعبير الفني. هذا لا يلغي الفن الحقيقي. هناك فنانون لهم منجزهم المعتبر. لكن كما تعرف، فعقد من الزمن قد لا يسمح بإجراء مسح عام وشامل لمعرفة ما أنتج للحكم عليه بهذه السرعة أو السهولة.




الفنان في سطور

- ولد في مدينة البصرة الجنوبية عام 1947
خريج معهد وأكاديمية الفنون الجميلة فرع الرسم 1973 ــ 1976 بغداد
خريج مدرسة الفنون الجميلة الوطنية العليا وجامعة «السوربون الباريسية» (فرع تاريخ الفن عام 1981)
أقام العشرات من المعارض الشخصية والجماعية في عدد من الدول العربية والأجنبية
- عمل كرسام ومصمم في الصحافة العراقية والعربية
- عمل أستاذاً للرسم في مدينة سكيدة الجزائرية