كيف تتكون إيديولوجيا النظام السياسي وعقيدة القيادة السياسية، وخصوصاً في المجال الاقتصادي والتنموي؟سؤال حارت فيه ألباب الدارسين. فإن كان النظام السياسي قائماً على الظاهرة الحزبية فإن العقيدة فرع من فروع التنظيم، وإنْ لم تكن ثمة أحزاب فهناك ظاهرة «الكاريزما» التي تراكم عقيدتها السياسية، إما بفكرية مؤدلجة بحكم سابقة التربية السياسية، وإما بطريقة «المحاولة والخطأ» بفعل تكرار التجارب التي تنبثق منها خبرات فدروس وعبر، يتكوّن منها عبر الزمن نسيج فكري وقماشة ثقافية.

أو أنه يكون هناك مزيج من الطريقتين: فكرٌ مسبق ولو على هيئة مبادئ عامة فقط، تتلمس من خلال التجارب المتتالية فكراً متراكماً قد يصل إلى حد بناء النظرية أو ما يقترب منها، وهكذا كان جمال عبد الناصر مثلاً.
وفي مصر العربية الآن، أجدني أقرب إلى منهج «التجربة والخطأ» كطريق لتكوين منظومة المدركات الفكرية على مستوى القيادة السياسية ــ ولذلك أجدني أيضاً قادراً على التنبؤ بإمكان التغير في منظومة الاعتقادات السياسية عبر الزمن، من خلال معترك الممارسة السياسية. ولذا أيضاً، أرى أن ما أدعوه بإيديولوجيا النظام السياسي المصري الراهنة في المجال الاقتصادي ــ التنموي، هي مجرد توجهات تكونت عبر جدل الفعل وردّ الفعل في فترة ما بعد «ثورة يناير» 2011، وخصوصاً ما بعد «30 يونيو» 2013.
وقد وجدت أن التوصيف العلمي المناسب لمجموعة الأفكار الناظمة للحياة الاقتصادية في مصر الآن، أقرب إلى ما يسمى بـ«الليبرالية الجديدة». وتلك عقيدة قائمة على ترك الحرية للخواص من أصحاب رؤوس الأموال إلى أبعد حد ممكن، انطلاقاً من إرث آدم سميث، وما هو أبعد: «دعه يعمل دعه يمر». وهذا ما حدث في الدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب، ولكنه شهد بالتدريج نوعاً من التوازن الطبقي عبر القوة النسبية لنقابات العمال والتشكيلات السياسية للطبقة العاملة، ما أوجد ساحة للعمل في الفضاء العام للدولة كجهاز للتوفيق بين الطبقات في ظل الرأسمالية.
فضلاً عن ذلك، بزغ في سماء الأزمات فكر رأسمالي جديد منذ ثلاثينيات القرن المنصرم، انتقل من الحرية الخاصة إلى «تدخل الدولة» وفق ما يسمى بالمذهب «الكينزي».
وخلال ثلاثين أو أربعين عاماً عقب الحرب العالمية الثانية سادت الكينزية، على قاعدة من توازن نسبي للطبقات، حتى تفاقمت «أزمة التضخم الركودي» في منتصف السبعينيات، فانقلبت الرأسمالية على نفسها لتعود القهقرى إلى أفكار الحرية الخاصة الأولى، ولكن إلى ما هو أبعد، انحيازاً أكثر لأصحاب رؤوس الأموال وفي مواجهة الفئات العاملة والفقيرة نسبياً من خلال سياسات الضريبة وتخفيضها على الأغنياء، وكذا خفض الدعم الموجه للفقراء وبصفة خاصة دعم الغذاء والتأمين الصحي والتأمين ضد البطالة. تلك هي الليبرالية الجديدة التي وجدت ضالّتها في ضرورة تحقيق توازن الموازنة العامة عن طريق خفض العجز بواسطة تقليص الإنفاق الاجتماعي، كسبيل يتصورونه لتهيئة البيئة الاستقرارية للنمو الاقتصادي في الأجل الطويل، نموّ بلا تضخم جامح وبلا ركود مزمن. تلك هي إذاً دعوة الليبراليين الجدد، الذين سكنوا قصور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ونقلوا وصفة علاج الأزمات في العالم الرأسمالي الغنيّ إلى البلدان الفقيرة المدينة كشرط لإنقاذها من ربقة الديون.
جربت مصر ذلك في التسعينيات فنجحت جزئياً ونسبياً خلال خمس أو ست سنوات (1992ــ 98) ثم أعقبها فشل مستمر حتى «ثورة يناير».
ولكن ها هي مدرسة الليبراليين الجدد تفرخ تلامذة جدداً، وأساتذة جدداً أيضاً، في كل البلدان النامية ومن بينها مصر العربية، بعد يناير 2011، بل وبعد «30 يونيو» 2013 أيضاً. هذه الإيديولوجيا المستعارة، التي جربناها ونجربها، ولا بد أن نسعى لاستخلاص دروسها سريعاً لننتقل منها إلى إيديولوجيا جديدة لنظامنا السياسي بالذات، فما أهم معالم الإيديولوجيا الراهنة؟ وكيف نتجاوزها؟
تتلخص دعوى «الليبرالية الجديدة» ــ وفق النسخة التي يجرى العمل على تطبيقها في مصر الآن ــ في نقطتين أساسيتين: النقطة الأولى هي عَقْد الآمال الكبيرة على القطاع الخاص الكبير، أو ما يمكن أن نطلق عليه «كبار رجال المال والأعمال». والنقطة الثانية إطلاق العنان للسوق الحرة وما يسمى لديهم «الاقتصاد الحر» وفق القول المأثور لأبي الفكر الاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث: «دعه يعمل، دعه يمرّ»، وبالفرنسية كما اشتهر القول: «Laissez Faire, Laissez passer».
ومن جماع النقطتين يمكن الخلوص إلى مَعْلَمةَ تشكل ما يمكن اعتباره ثالث أحجار الأساس، أو بتعبير بلاغيّ منحاز: ثالثة الأثافي، وتلك هي انحصار دور الدولة التدخّلي في المجال الاقتصادي والإنتاجي في أضيق نطاق ممكن، عدا ما يقوم به رئيس الجمهورية على عهدته الشخصية ــ إذا صح التعبير – في مجال «المشروعات الكبرى» بواسطة «الهيئة الهندسية للقوات المسلحة»، كمقاول رئيسي يتبعه المقاولون المدنيون الفرعيون المنفذون من الباطن، من شركات المقاولات المحلية غالباً، والأجنبية أحياناً.
هذا الدور الضيق نسبياً للدولة، بمعنى محدودية الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية، قريباً من الدعوى المشار إليها سابقاً لليبراليين الجدد في الغرب، اقتصادياً، و«المحافظين الجدد» سياسياً، في حقبة الثمانينيات والتسعينيات المنصرمة حول ما أسماه دعاة «الريغانية الاقتصادية» ــ نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان ــ بالحد الأدنى من الحكومة، أو الحكومة الدنيا Minimal Government.
تتصل هذه النقطة بحجر الأساس الأول المتعلق بالدور المنوط نظرياً بالقطاع الخاص الكبير، من حيث أن دور الدولة يتحدد في العمل على «تسهيل» نشاط قطاع الأعمال الخاص الكبير، ما يمكن أن يسمى بالبرجوازية الكومبرادورية إلى حد بعيد. إن الحكومة ــ أو جهاز الدولة التنفيذي والإداري ــ تلعب هنا في المقام الأول دور «المسهل» Facilitator أكثر منه المخطّط والمرشد والمراقب النشيط على النحو المعروف في التجارب الشرق ــ آسيوية بالدولة التنموية Developmental State.
يتمثل ذلك عملياً في قيام جهاز الدولة ــ من خلال أذرعه الإدارية ــ تقديم تسهيلات وحوافز الاستثمار الضريبية وفْق (أخلاقيات الكرم) من طرف واحد غالباً، بغرض تشجيع الاستثمارات الموجهة لتنمية المناطق المهمشة تاريخياً (الوجه القبلى أي الصعيد) أو المدرجة في نطاق تحقيق الأمن الغذائي ــ الزراعي بالذات. كل ذلك برغم أن تجربة التوسع في الإعفاءات الضريبية لمدد معينة (5 ــ 10 سنوات) خلال فترات سابقة، منذ 1975 حتى 2005 لم تثبت فاعليتها في تنمية الاستثمارات. وهذا هو الدرس المستخلص أيضاً من التجارب الدولية، حيث لا تمثل الآلية الضرائبية أداة فعالة للتحكم في حركة دخول وخروج الاستثمارات، الأجنبية أو المحلية. إضافة إلى التشجيع الضريبي، هناك التكفل من طرف الدولة بإقامة وتوصيل مرافق الماء والكهرباء في ما يسمى «الترفيق» بعد تخصيص الأراضي بأسعار جدّ زهيدة في المناطق العمرانية الجديدة؛ وكذا بناء شبكات الطرق على تنوعها، وتسهيل التراخيص الصناعية، وتبسيط الإجراءات الإدارية اللازمة فيما يطلق عليه التوجه نحو «الشباك الواحد».
عدا عن خدمة الدولة لقطاع رأس المال الخاص الكبير، نشير إلى المشروع العام الذي يرعاه رئيس الجمهورية شخصياً ــ خارج المبادرات الحكومية المعتادة ــ بالتوجه نحو دعم إقامة مناطق صناعية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، كما يحدث بشأن إقامة المدينة الصناعية لمدابغ الجلود في منطقة «الروبيكي» على أطراف القاهرة، والمدينة الصناعية للأثاث على مشارف دمياط، مع تقديم تسهيلات ائتمانية موسّعة وفق مبادرة البنك المركزي بالإقراض الصغير والمتوسط بفائدة أقل من أسعار الفائدة المصرفية السائدة، وذلك في حدود 200 مليار جنيه مصري خلال خمس سنوات.
يحدث ذلك وفق مبدأ الحرية الاقتصادية الخاصة الأثير لدى دعاة الليبرالية الجديدة من دون أي نظام للأولويات المسيطر عليها من قبل الدولة، إذ يترك خيط المبادرة ممدوداً لأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بعيداً عما تشير إليه التجربة الآسيوية من ضرورة تحقيق الربط بين المشروعات الصغيرة والكبيرة في المجال الصناعي بالذات. ويتم ذلك تبعاً لمخطط إرشادي متفق مع أولويات التنمية المتدرجة عبر الزمن في مجال التعميق الصناعي والتكنولوجي، لحفر مكانة خاصة للدولة المعنية على خريطة التنافسية العالمية وفي إطار تحولات تقسيم العمل الدولي الديناميّة.
ودع عنك أن العمل مع المشروعات الصغيرة والمتوسطة على النحو السابق، والذي يتم بمبادرة من رئيس الجمهورية، يقع بالتوازي مع إطلاق العنان بكامله للأعمال الخاصة الكبيرة. وبرغم تكرار الحديث الرسمي حول وضع «خريطة استثمارية وطنية» فإن تلك المشروعات يتركز نشاطها خارج قطاع الصناعة التحويلية التي هي القاطرة الحقيقية للتنمية: إما في مشروعات بناء المدن كمقاولين من الباطن لجهاز الدولة والقوات المسلحة، وإما في تشييد المناطق العمرانية والمدن السكنية الجديدة حول القاهرة والإسكندرية، وكذا في القطاع الفندقي والسياحي، برغم استمرار موجة الركود لهذا القطاع طوال العامين الأخيرين.
وفي الحالين، سواء للمشروعات الكبيرة أو المتوسطة والصغيرة، يستمر جهاز الدولة ــ ممثلاً في «وزارة الصناعة» ــ بتقديم حوافز إضافية للاستثمار الخاص من خلال ما يسمى ببرنامج «المساندة التصديرية» على هيئة دعم مالي يستفيد منه بالدرجة الأولى، كبار المصدرين، قبل صغارهم ومتوسطيهم بطبيعة الأحوال السائدة.
تكلّمنا حتى الآن عن دور الدولة الموجّه نحو عقد الآمال على القطاع الخاص ــ وفق إيديولوجية الليبرالية الجديدة ــ كحجر أساس أول في العقيدة الرأسمالية المستحدثة. وننتقل إلى النقطة الثانية المتعلقة بدور الدولة في مجال السوق، حيث تكف الحكومة بأفرعها التنفيذية والتشريعية والقضائية بشكل عام عن محاولة ضبط السوق، لا سيما التجارة الداخلية والخارجية، بدعوى «الاقتصاد الحر»، كل ذلك برغم الآثار السلبية المتكررة والمتراكمة لحرية السوق ــ بمعنى حرية الاحتكارات المتحكمة في أسواق السلع والخدمات في واقع الأمر. ويزداد تفاقم هذه الآثار بعد القيام بما هو أكثر ما طلبه «صندوق النقد الدولي» من الحكومة المصرية في مجال سعر الصرف، ونقصد ما سمي بالتعويم الحر للعملة المحلية، الجنيه، في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. وقد أدى ذلك إلى خفض تلقائي وفوري في قيمة الجنيه /مقابل الدولار، إلى النصف تقريباً، بين عشية وضحاها. ويعني ذلك انخفاض الدخل الحقيقي للفئات الاجتماعية في الوقت نفسه، وبخاصة الفئات المشتغلة بالأجر في القطاعات كافة، والتي لا تستطيع تعويض أثر التضخم، بعكس الفئات مالكة رأس المال والفئات مالكة الخبرات المهنية «النادرة اقتصادياً» من كبار المهنيين من الأطباء وسواهم، والتي تستطيع تعويض أثر التضخم برفع أسعار السلع التي تنتجها أو الخدمات التي تقدمها.
لا يفعل جهاز الدولة شيئاً في الوقت الحالي إزاء هذه المفارقة الاجتماعية الصارخة التي تقترب من حدود المأساة الاجتماعية، وبخاصة للطبقة المتوسطة، عدا ما يتم تكراره من حديث حول النطاقين الداخلي والخارجي للسوق على النحو الآتي:
أ ــ في المجال الداخلي، يتم الحديث عن توازن السوق من خلال التوسع في طرح السلع الأساسية في «الجمعيات التعاونية الاستهلاكية» التابعة لوزارة التموين، وفي «منافذ القوات المسلحة»، بالإضافة إلى استمرار العمل بنظام البطاقات التموينية لمستحقيها (أكثر من 22 مليون بطاقة يستفيد منها نحو 70 مليوناً من الأفراد) مع ارتفاع في أسعار السلع التموينية المدعمة وتقطّع دوري في إمداداتها. ولا يسفر هذا الحل المطروح في الحديث الرسمي عن توازن حقيقي في السوق لخفض معدلات التضخم السعري، فيظل التضخم منفلتاً، متجهاً إلى الجموح في ما يسمى hyper inflation بآثاره التدميرية على الكيان المعيشي للطبقة المتوسطة بالذات.
في المجال الخارجي، يتم الاستمرار في التحدث البلاغيّ حول عدم التدخل بالتقييد الجمركي أو غير الجمركي للواردات برغم الأثر الفادح للاستيراد العشوائي على العجز المتزايد للميزان التجاري. ويتم ذلك برغم أن مضاربة المستوردين الخواص على الدولار لتمويل عمليات الاستيراد العشوائي هي السبب الرئيسي لارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه، بفعل تزايد الطلب، مما دفع الحكومة ــ في معركتها الخاسرة أمام المستوردين والمضاربين ــ إلى الخفض بالتعويم مؤخراً، كما أشرنا. وقد أكدت الحكومة ممثلة في وزير الصناعة والتجارة ــ عدم نية التدخل بتقييد الواردات المسموح وفق اتفاقات التجارة العالمية (غات 1947 وغات 1994) بدعاوى مختلفة غير متفقة مع الواقع في حقيقة الأمر، ما لا داعي لبيانه تفصيلاً في هذا المقام.
هذا التراخي في قبضة التأثير على التجارة الخارجية، يتوازى مع التراخي في قبضة التأثير على السوق الداخلية، تكراراً لدعوى الممثلين الرسميين الكبار بأن التدخل في السوق يخلق (السوق السوداء) وكأنها ليست قائمة على قدم وساق! ودعواهم أيضاً بأن التدخل بمحاولة تحديد هوامش النفقات والأرباح يقترب من فرض «التسعيرة الجبرية أو الإلزامية». وذلك أيضاً غير متفق مع الواقع في حقيقة الأمر، فإن تحديد هوامش الربح وخاصة للسلع المستوردة (برغم ما هو معروف عن «تزوير» فواتير الشراء) هو أمر معمول به في الظروف الاستثنائية كالظرف الاقتصادي المصري الراهن من دون منازع، بدليل أن الحكومة كانت شكلت منذ فترة وجيزة لجنة وزارية خاصة مكلفة بتحديد هوامش الربح، ثم انتهى الأمر عند ذلك بصمت غير بليغ!

«الحواشي الاجتماعية» لليبرالية الجديدة

تتسّم الليبرالية الجديدة في نسختها المصرية ــ قبل «ثورة يناير» وبعدها وخاصة الآن ــ بسمة ليست فريدة في بابها ولكنها مهمة. نقصد التحول في مسار عمل المنظمات الاقتصادية الدولية من أسرة الأمم المتحدة، وأسرة بريتون وودز (الصندوق والبنك). يجرى هذا التحول مثلاً على ألسنة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (تقرير «التنمية البشرية») والبنك الدولي (تقرير «التنمية في العالم») من خلال إضافة لمسة جانبية على وجه «الليبرالية المتوحشة» بتحويلها تجميلياً إلى رأسمالية متوحشة ولكن طيبة، إن صح التعبير، فإذا فيروس الليبرالية ينقل عدوى مزدوجة: تعميق الانقسام الطبقي من خلال خفض الضرائب على الأغنياء وخفض الإنفاق الاجتماعي على الفقراء كطريق لعلاج أزمة العجز في الموازنة العامة ومن ثم محاصرة التضخم بكبح سيل التمويل التضخمي لتمويل العجز، بعيداً عن خفض الإنفاق على التسلح والحروب، على كل حال. هذا من جهة أولى. ومن الجهة الثانية للعدوى المزدوجة، فإن هناك جهداً معمّماً موجهاً لتلطيف الانقسام الطبقي، للحيلولة دون الصراع الطبقي وفق النبوءة الاشتراكية في طبعتها الماركسية. ويتم هذا التلطيف عن طريق ما تدعوه طواقم البنك الدولي، منذ روبرت ماكنمارا رئيس البنك الدولي مطلع الثمانينيات، بخفض الفقر، وما عملت عليه بهمة ونشاط تقارير «التنمية البشرية» ذات السمعة الذائعة.
وعدا عن الإطار العام لخفض الفقر عن طريق التنمية البشرية، فإن هناك الإطار الخاص لمعالجة الآثار السلبية للبرامج الموصى بها من الصندوق والبنك في البلاد النامية المثقلة بالديون (برامج التكيف الهيكلي كما سميت في مراحل سابقة SAP) (Structural Adjustment Program) ويتمثل هذا الإطار الخاص في ما يطلق عليه «منظومة الحماية الاجتماعية»، وأحد تمثلاتها القوية هي «شبكات الأمان» safety Nets إنها تلك المنظومات والشبكات المصممة لحماية الفقراء المدقعين من الوقوع في براثن المجاعة.
وابتدعت كذلك أساليب نظرية ومقتربات كمية من بينها خطوط الفقر الوطنية التي لا يجوز النزول عنها للفئات الفقيرة، وخصوصاً خط الفقر المدقع، ثم خط الفقر المعتدل، وهلم جرّا.
وفي مصر الآن تضجّ الحناجر بالدعوة العامة إلى أن تقوم الدولة برفع شرائح الضرائب التصاعدية على الأغنياء من الأفراد والشركات لتمويل عجز الموازنة العامة بدلاً من تمويله عن طريق خفض الدعم السلعي والخدمي، ولكن لا حياة لمن تنادى، كما يقولون!

كان التوفيق بين الادخار والاستهلاك، إذاً، ديْدن النهج الاقتصادي للناصرية


فبرغم تدهور أحوال المنظومتين التعليمية والصحية والخدمات والمرافق العامة، يصر جهاز الدولة على خفض النفقات الاجتماعية، وترك «الحبل على الغارب» للأسعار المفروضة من أباطرة احتكارات السلع والتعليم والصحة والخدمات الأخرى، من دون ترفق بالطبقات المتوسطة بالذات.
ولكن من جهة أخرى، هناك نوع من العناية بالفقراء المدقعين من خلال منظومة البطاقات التموينية، وطرح السلع في مجمعات التموين ومنافذ القوات المسلحة، وبرنامج الدعم النقدي الموسع من خلال برنامج «تكافل وكرامة»، «ومعاشات الضمان الاجتماعي» المتنوعة. ذلك كله لتأسيس مأوى shelter حامٍ للفئات شديدة الفقر، أما الفقراء المعتدلون من أبناء الطبقة الوسطى فهم بغير غطاء أو شبكات للأمان.
تسعى (الحواشي الاجتماعية) إذاً لتلطيف الوجه الليبرالي الجديد بوضع قناع يبدو سميكاً وهو شفاف أو غير معتم إلى حد بعيد.

وما البديل؟

لقد ظهرت وتضخمت «الليبرالية الجديدة» في أميركا وأوروبا منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، على أيدي مدارس فكرية مثل «النقديين الجدد» بزعامة ميلتون فريدمان، في مجال العلم الاقتصادي، و«المحافظين الجدد» في المجال السياسي.
وأتت الليبرالية الجديدة على هذا النحو، كبديل مما سمي بمدرسة «دولة الرفاهة» في أوروبا وأميركا، وفق « النظرية الكينزية» القائمة ــ كما أشرنا ــ على تدخل الدولة في الاقتصاد النقدي والمالي. وإن ظهور الليبرالية الجديدة على النحو السابق وانتعاشها إلى حدود «الليبرالية المفترسة» ثم امتدادها إلى العالم النامي المثقل بالديون، على النحو السابق، قد تزامن مع اتّباع سياسة «الانفتاح الاقتصادي» في مصر بعد حرب أكتوبر 1973 مباشرة، أي في حدود 1974 ــ 75 «بعد «تمهيد نيرانيّ» كثيف! خلال فترة 1971 ــ 74 بالتخلي عن السياسات المتبعة في العهد الناصري تحت راية الاشتراكية، باسم «الاشتراكية العربية» و«التطبيق العربي للاشتراكية» في مواجهة الانفتاح الذي اتبع عموماً خلال أربعين عاماً (1971 ــ 2011).
لقد كانت الناصرية تمثل بديلاً مقابلاً بأيديولوجية مختلفة جذرياً، تبلورت على مهل، حتى نضجت فكرياً من خلال «الميثاق الوطني» الصادر في أيار/ مايو 1962.
من أهم في الميثاق الوطني، ما يتصل بموضوعنا، هو تلك الفقرة الشهيرة والمسماة «المعادلة الصعبة» وتتلخص في سؤال: كيف نزيد الادخار والاستثمار، وفي الوقت نفسه، نزيد الاستهلاك، لكي لا نضحّي بالجيل الحالي من أجل جيل مقبل.
مع أن الميثاق الوطني لم يصرح فإن المضمر غير المصرح به هو أن الطريق الثالث ــ الناصري ــ ينأى عن النموذج السوفياتي لا سيما في نسخته الستالينية التي ضحت بجيل من أجل جيل.
كان التوفيق بين الادخار والاستهلاك، إذاً، ديْدن النهج الاقتصادي للناصرية، وأما ديْدنها السياسي فهو «تحالف قوى الشعب العاملة» من العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية، بديلاً ثورياً من التحالف الطبقي القديم من الإقطاعيين ملاك الأراضي الكبار والرأسماليين وخاصة التجار والمقاولين والصناعيين، إن وجدوا.
فما أشد حاجتنا إلى أن نستلهم مبادئ النموذج الناصري، من دون استنساخها، لإنصاف العمال والفلاحين وأبناء الطبقة الوسطى من المثقفين والرأسمالية الوطنية المتوسطة والصغيرة غير المستغلّة، تحالفاً طبقياً قادراً على حل المسألة الوطنية ممثلة راهناً في مواجهة مشروعات الإرهاب وإسقاط الدولة، فهل نتعلم الدرس؟
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة