اختارت إليف شفاق (1971) ليلة الزلزال الذي أصاب مدينة اسطنبول عام 1999 عتبة أولى لاستعادة محطات أساسية في حياتها بوصفها زلازل وارتدادات وإعادة فحص لقناعاتها في شؤون الكتابة والأمومة والعزلة.
في كتابها «حليب أسود» الذي انتقل أخيراً إلى العربية (دار مسكيلياني- تونس، ترجمة أحمد العلي)، تحيلنا الروائية التركية المشهورة إلى حالة «اكتئاب ما بعد الولادة» التي أصابتها في العمق، وإلى رعبها من عدم قدرتها على الكتابة ثانيةً، هي التي آمنت على الدوام بأن رواية القصص شغفها الوحيد في حياتها. هكذا، كان عليها أن تقوم بتدريبات شاقة من أجل تحويل حليب الأمومة إلى حبر أسود على الورق، في رحلة مزدوجة إلى «وادي الأطفال وغابة
الكتب».
تعترف صاحبة «قواعد العشق الأربعون» بأنها لطالما كانت أشبه بالبدويّة المترحّلة، إذ أنها لم تستقر يوماً في مكان، تتنازعها ست نساء، يصعب أن تتناغم أصواتهن معاً في داخلها. لكن لحظة الأمومة كانت «رعدة عاطفية» قلبت موازين حياتها رأساً على عقب. كان عليها إذاً، أن تتخلّى فجأة عن «مانفيستو الفتاة العزباء»، وتتفقد الحريم القابعات بداخلها، ومن هي على وجه الدقة: المحبة للصوفية، أم التشيخوفية، أم المترحّلة، أم السلميّة أم النباتية، أم «ماما الرز بالحليب»؟ هذه الجوقة من الأصوات الفوضوية وضعتها حيال امتحانات صعبة في اكتشاف موقع قدميها. سوف تستنجد في فصولٍ أخرى من مذكراتها بكاتبات تمكنَّ من الاستمرار في الكتابة، رغم المحن الشخصية مثل سيلفيا بلاث، ودوريس ليسينغ، وآين راند، وفرجينيا وولف، معوّلةً على فكرة اقترحتها الأخيرة في كتابها «غرفة تخص المرء وحده» عن أهمية العزلة في ازدهار مهنتها الروائية: «نستلقي داخل هذه الشرنقة البصرية محاطين بأبطال متخيلين. نكتب الأقدار ونحسب أننا آلهة» تقول.
بين مخاضي ولادة طفل وولادة كتاب، تتأرجح أفكار صاحبة «لقيطة اسطنبول» في معنى الزلزال الذي يطيح يقينيات راسخة، وكيف أن الكتابة وحدها ستكون «الصمغ الخفي الذي يبقي على أجزائي المختلفة متلاصقة». شجار داخلي بين أصواتها المتناقضة، من دون أن تستطيع حسم هذا العراك لمصلحة الجميع «حين أتفق مع واحدة، لا يمكنني مصالحة الأخريات»، لكنها بعد تجاوز مرحلة «اكتئاب ما بعد الولادة» تقرّر إخراجهن من صندوقها الداخلي كي تمنحهن حقاً متساوياً في الكلام، رغم أن المرأة الفوضوية وحدها هي من تتمرّد على سواها، فهي لا تتردد في تغيير الأمكنة والمدن والعلاقات من اسطنبول إلى أريزونا وبرلين إلى أن استقرت في لندن، نابذة كل الأعراف. رفضت ارتداء فستان أبيض في عرسها. توجهت إلى السفارة التركية في برلين بصحبة زوجها وأنهيا الإجراءات على عجل. كما أن علاقتها بالأشياء «سلسلة من الخيانات»، مكتفية بحقيبة لا مرئية تزدحم بالحكايات. كمبيوتر محمول على هيئة مكتب متنقّل، إذ تعترف «أنا الفوضى» وهذا ما يجعلها بلا عنوان ثابت، أو قناعات أكيدة، سواء في الحياة أو الكتابة. شريط طويل من تجارب الكاتبات، من دون أن تقع على حكمة نهائية. عالقة بين بلزاك وشهرزاد، جلال الدين الرومي وسارتر، عدالة أوغلو، وسيمون دوبوفوار، هايدغر وسيوران. ستجد لدى إيلين سيكسو ضالتها إلى حين «الجسد الأنثوي شكل ملهم للكتابة». الفكرة لا تتوقف هنا، إذ تضيف «هناك كاتبات اخترن أن يكتبن كالرجال بدلاً من تقويض النظام الأبوي من الداخل».
الكتابة التي تروقها إذاً، هي تلك التي تستند إلى «الاقتصاد الشهواني والأنثوية» بشكل يمنح هذه الكتابة مركزيتها اللغوية التي تعمل خارج هذه الأراضي وتحتها مثل الأنفاق التي يحفرها الخلد. هكذا ستجد نفسها خارج سياق المنطق لتغوص في «بحيرة اللامعقول». جرعة الكآبة التي تدوّنها في مفكرة أسابيع الحمل لن تطول كثيراً، ستضع أقراص أدوية الاكتئاب في تربة أصص النباتات وتراقب تحولاتها المضحكة. ذلك أنّ صاحبة «شرف» ستستعيد روحها المنهوبة بالكتابة واستعادة كرسي الحكواتية بمزيج من التسكع واللهو والتهكم «الكتّاب الرجال يجيئون إلى الأذهان ككتّاب أولاً ثم كرجال، أما الكاتبات فإنهن إناث أولاً، ومن ثم كاتبات». هنا تستدعي تجارب كاتبات من الموقع المضاد مثل مارغريت دوراس التي وضعت الحشمة جانباً في رواياتها، وأنانيس نين في اعترافاتها الخشنة، ولواندرياس سالومي التي ألهمت ريلكه ونيتشه وفرويد في كتاباتهم اللاحقة.
لا مكوث نهائياً في أرض متجذّرة، إذ تنتصر البدوية المترحّلة على ما عداها في حواراتها مع نسائها رغم محاولاتها في لصق الصمغ لتجميع أجزائها المتشظية في أكثر من مرآة. وإذا بالقصص التي تختزنها تتفجّر دفعة واحدة على هيئة حليب أسود، بعد طول جفاف. هكذا ستنجز بعد سنة من مكابدات الحمل والولادة والاكتئاب روايتها «قواعد العشق الأربعون» لتتصدّر أكثر الكتب مبيعاً في تركيا. وستطلق اسم «شهرزاد» على ابنتها «أعظم راوية في تاريخ الشرق»، ربما كي تكمل شغفها في اقتناص حكايات الآخرين. لكن ماذا حلّ بالحريم القابعات في داخلها؟ تجيب: «ننجح أحياناً في العيش بتناغم وانسجام، ونفشل في أحيانٍ أخرى بغباء. وعندما نفشل، نتذكر لحظات الانسجام والتناغم، فنحاول مرّة أخرى».