غالباً ما يترافق تشكيل الحكومات الجديدة مع ارتفاع في الآمال. غير أن الحكومات الجديدة تتلازم مع المبالغة في قطع الوعود. لذا، لا عجب في رؤية العديد من الحكومات، على الرغم من بقائها لفترة طويلة في الحكم، وعلى الرغم من الفرص الكثيرة التي تتاح لها، لا عجب في رؤيتها تسجّل إيجابيات محدودة، ولو أنّ هذه النتيجة تبقى محمودة إذا ما قارناها بحالات التراجع المأسوي الذي تشهده بعض الدول (كما الحال في أعقاب الربيع العربي، وكذلك في فنزويلا واليونان).
وليس من غير المألوف أن نشهد عودة الأعمال بسرعة إلى وضعها الطبيعي، زوال التفاؤل، وعودة التهكّم.
وهنا لا بدّ من طرح السؤال عن الإرث الذي خلّفته الحكومات اللبنانية. شخصياً، إذا طُرح عليّ هذا السؤال، أجد صعوبة في ذكر أي إنجازات، ولو قليلة، حقّقتها الحكومات التي تتالت منذ بداية الألفية، باستثناء إنجازٍ واحد، هو عدم العودة إلى النزاع الداخلي (تسمية مخفّفة للحرب الأهلية). لم يُنجز إلا القليل من ناحية جمع النفايات، وإمدادات المياه المتقطعة، وانقطاع الكهرباء، وتعثّر التعليم العام، ومحدودية التغطية الصحية أو تحسين الحكم. ولا يزال هناك نقص في وسائل النقل العام، والطرقات الجديدة، والبنية التحتية، والتخطيط المُدني. ولا علاقة لذلك كلّه بتعدّد الطوائف في البلاد أو بالتحزبات السياسية. كلّ مواطن لبناني، بغضّ النظر عن معتقداته، يودّ الحصول على ما تقدمه أيّ دولة أخرى ذات دخل متوسط عالٍ لمواطنيها. دعونا لا ننسَ أنّ معدّل دخل الفرد في لبنان هو الأعلى بين الدول العربية باستثناء منطقة الخليج.

معدّل دخل الفرد في لبنان هو الأعلى بين الدول العربية باستثناء منطقة الخليج

مع ذلك، لا يمكن التركيبة السياسية الجديدة في لبنان إلّا أن تبعث على الأمل. وهذه فرصة أخرى لا ينبغي تفويتها إذا كان للتاريخ ألّا يعيد نفسه ولو لمرّة واحدة. وغنيّ عن القول أنه لا ينبغي تأجيل عملية إطلاق الخطط التي تتعلق بتوفير وجودة الخدمات العامة المذكورة أعلاه. ولكن ما الذي يمكن إنجازه في بلد حيث الأكثر والأفضل ضرورتان لا مفرّ منهما في كل شيء؟
ثمّة بعض الأمور التي يسهل تحقيقها، شرط أن تتوافر الإرادة السياسية. الأمور الثلاثة التالية قادرة على تحقيق أثر شامل مقابل تكلفة مالية بسيطة أو معدومة. حتى الحيّز المالي المحدود قادر على تحقيق الكثير إذا جرى الحدّ من الهدر والمحسوبية ووُجِّه الإنفاق إلى المجالات التي تعود بفوائد اجتماعية واسعة.
أولاً، على لبنان العمل على الخروج من فئة الدولة المتوسطة الدخل التي لا تزال عاجزة عن توفير المعاشات التقاعدية لعامليها من خارج القطاع العام. في عام 2010، طلب بطرس حرب، وزير العمل آنذاك، من منظمة العمل الدولية والبنك الدولي تقديم إطار لتأمين المعاشات التقاعدية للعاملين في القطاع الخاص. وسرعان ما استجابتا، وأُعدَّ مشروع قانون بهذا الصدد. لكنه بقي مجرّد مشروع على غرار مشروع قانون العمل الذي بقي حبراً على ورق منذ التسعينيات. في الواقع، لا يزال لبنان يطبّق قانون عمل قديم يعود للأربعينيات.
ثانياً، على لبنان أن يردم الهوّة بين التعليم العام والخاص. لقد زرت أكثر من سبعين دولة، ولا تخطر في بالي واحدة حيث عدد الأطفال الملتحقين بالتعليم الابتدائي في القطاع العام أدنى من الذين يلتحقون بالتعليم الذي توفّره المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص. في الواقع، التعليم الذي توفّره المنظمات غير الحكومية يستفيد من المال العام، وهو أمر يجهله على الأرجح أولياء الأمور، ما يؤدي إلى تقديم العديد منهم الولاء للمنظمات غير الحكومية وليس لحكومتهم. أما من حيث الجودة، فنظام التعليم اللبناني المتغنّى به واقعٌ بين عالمين: قطاع خاص عالي الأداء وقطاع عام متقاعس. والنتيجة هي أن العديد من التلامذة اللبنانيين لا يتجاوزون مرحلة البروفيه. وهم بالتالي يعجزون عن الهجرة، فيجدون أنفسهم في أدنى شرائح القطاع غيرالنظامي الذي لطالما هيمن عليه من هم من غير اللبنانيين، وبشكلٍ أكبر في الآونة الأخيرة.
ثالثاً، على لبنان أن يعتمد السياسات القائمة على الأدلّة. فحتى الدول الأفريقية المعدمة لديها إحصاءات أفضل من لبنان. مع الاعتراف بأنّ التبرير في جزء منه يعود إلى أن أفريقيا تتلقّى المساعدات الدولية، والمانحون يريدون أن يعرفوا أين تُنفق أموالهم. للأسف، يبدو أن الجهات المانحة متراخية تجاه كيفية إنفاق المساعدات بمليارات الدولارات التي قدمتها بانتظام للبنان. كذلك إنّ غياب التعداد السكاني يعوق تصميم العيّنات التمثيلية الضرورية لأي مسح، التي يمكن استخدامها بنحو موثوق لتصميم السياسات الفعّالة والملائمة. لا فائدة من محاولة التكهّن لمعرفة من هي المجموعة الدينية الأكبر. نحن نعرف من هي المجموعة الأكبر والأصغر منها والأصغر منها... ولكن غياب المعلومات المتعلقة بحجم السكان، توزيعهم المناطقي، وخصائصهم الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن الجوانب الأخرى ذات الصلة بالحياة العامة والخاصة، هي وصفة ضامنة للفشل السياسي.
دعونا نتخيّل ما سيكون عليه لبنان، لو جرى تناول هذه المجالات الثلاثة، ولو اعتمدت حكومته السياسات الاقتصادية والتوظيفية والاجتماعية القائمة على الأدلة، ولو كان مستوى عمّاله التعليمي أعلى، ولو تمتّع مواطنوه بنظام تأمين اجتماعي سليم. لو قُدّر لذلك أن يتحقق، فسيكون الربح إضافياً: انخفاض معدلات الهجرة في صفوف اللبنانيين اللامعين والأكثر نجاحاً، ارتفاع الإنتاجية، تحقيق المزيد من الثروات، وتراجع نسبة الإقصاء والتناحر الطائفي. حتى أنّ ذلك من شأنه أن يساعد في تكوين هوية وطنية وتبنّيها، وهو أمر قد غفل عنه اللبنانيون بنحو كبير في خلال تاريخ الجمهورية الحديثة. بناء الدولة ليس بعيد المنال، شرط أن يوافق السياسيون على الخروج قليلاً من منطقة الراحة التي اعتادوها والتخلّي عن فكرة كسب العيش على حساب الانقسام الحاصل في البلاد. من شأن ذلك أن يعطي الحكومة الجديدة الفرصة لترك إرث كبير، وهو ما فشلت الحكومات السابقة في السعي من أجله أو إنجازه.
يمكن الحكومة الجديدة أن تبدأ بالنظر في واقعين بسيطين: أولاً، تنطوي الاستراتيجية على اتخاذ القرار بشأن ما يجب استبعاده. ثانياً، إذا لم تتحقّقوا من الوقائع ستلحق الوقائع بكم، وعلى الأرجح على حساب البلاد. ولا يمكن لبنان أن يستمر بلا معاشات تقاعدية وحماية اجتماعية. لا يمكن اللبنانيين الاستمرار بالشعور بالضعف والهجرة. على الحكومة أن تعي إلى أي مدى تؤدي المنح التي تعطيها للقطاع الخاص لتقديم الخدمات الاجتماعية والمنافع العامة إلى تقسيم المواطنين، وإلى أي مدى تُسهم في استمرارية الإقصاء وعدم المساواة، ما يؤجّج السلوكيّات الطائفية. دعونا إذاً نركّز على هذه الأمور السهلة المنال. أي شيء آخر سيكون ربحاً إضافياً.

* رئيس سابق لقسم الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت وباحث مشارك في المركز اللبناني للدراسات