المسألة المطروحة: حلول لبنان في مراتب متدنية جداً في اختبارات برنامج التقويم الدولي لأداء المتعلمين PISA لعام 2015. قبل محاولة فهم الأسباب الكامنة وراء هذا الأداء السيئ للنظام التعليمي في لبنان، فلنحسم في أمر: هل هذا الاختبار يشكّل حالة عارضة وغير ذات دلالة، وبالتالي لا تستدعي القلق إزاءها؟ أم أن ثمة ثباتاً في أداء المتعلمين اللبنانيين الضعيف، وبالتالي تعكس هذه الاختبارات وغيرها واقع التربية والتعليم المتردّي اليوم في لبنان؟
إن جميع المعطيات تشير إلى أن التعليم في لبنان مأزوم، ويحتاج إلى تطوير شامل، ونفضة تهزّه في الصميم، وجرأة في رؤية التطوير، وإقدام في التنفيذ بدل الترقيعات التي يقوم بها أصحاب القرار التربوي ورهنهم قضايا التربية والتعليم لاعتبارات المحاصصة السياسية وتقديم الزبائنية والمحسوبية في إدارة المشاريع التربوية وتنفيذها على دواعي الكفاية والفعالية. دراساتٌ بالجملة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أو البنك الدولي أو الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية وغيرها، تظهر مثلاً ضعف مستوى المعارف والمهارات المدنية للتلامذة في لبنان وذلك بالمقارنة مع 28 بلداً، حيث جاء لبنان في طليعة البلدان ذات الأداء الضعيف في المحتوى المعرفي، ما يعني أن تلامذتنا في المدارس، يعرفون بشكل ضعيف المفاهيم المدنية وهم بغاية الضعف على مستوى امتلاك مهاراتها الأدائيّة (2008). وحصل لبنان على المرتبة الخامسة والعشرين بين اثنتين وأربعين دولة شاركت في امتحانات الـ (TIMSS) العالمية (2011/2012)، وكان أداء المتعلمين اللبنانيين دون المعدل الوسطي. في الرياضيات: حصل لبنان على المركز الخامس والعشرين، بينما كانت في المراتب الثلاث الأولى بالتتابع: كوريا الجنوبية، وسنغافورة، والصين الوطنية. وإسرائيل حلت سابعة. أما في العلوم، فحلّ لبنان في أحد المواقع الأخيرة تاركاً وراءه دولتين فقط، بينما تقدمت عليه كل الدول العربية المشاركة باستثناء المغرب، وحلت سوريا قبل لبنان بست مراتب. وقد أفرد رئيس المركز التربوي سابقاً د. نمر فريحه لامتحانات الـ (TIMSS) قراءةً متأنية في النتائج ومدلولاتها (يمكن مراجعة مقالته في النهار بتاريخ 18/3/2013). ونتائج الـ PISA اليوم، كما نتائج الـ PISA منذ ثلاث سنوات، تصب في نفس المنحى: تلامذتنا لا يمتلكون المهارات المطلوبة لزمانهم، حيث أنهم لا يحسنون استخدام الأفكار والمفاهيم العلمية واستثمارها في وضعيات التعلّم، ولا هم مكتسبون مهارات المنطق والتحليل، وفي القراءة، يقرأون ولا يعرفون استرجاع عناصر النص الذي يقرأونه أو معطيات الرسم البياني الذي ينظرون إليه. فضلاً عن ذلك، فالخلفية الاجتماعية تؤثر في الفرص الممنوحة للتلامذة اللبنانيين. وحتى التلامذة الوافدين إلى المدارس اللبنانية التي استنفرت لاستقبالهم ولتأمين متطلبات التعليم في ظل النزوح، فقد جاء الأداء في المستوى الأدنى بالمقارنة مع باقي الدول، بالرغم من كلّ الأموال المصروفة... لكن لماذا يحصل ذلك؟ وأين مكمن الخلل؟ ربما أسئلة بسيطة ستكون كفيلة في الإضاءة على رداءة مخرجات نظامنا التعليمي، وتدنّي جودته مع الوقت، وبؤس السياسات التربوية المتبّعة وعدم ارتقائها إلى مستوى التحديات المطلوبة والمسؤولية المعقودة على المشتغلين بالتربية وأصحاب القرار التربوي على حد سواء: في أية مدارس يدرس أبناؤنا؟ 70% منهم تهبهم الدولة بالدستور إلى مدارس الطوائف الدينية التي لا تزال عقلية القائمين عليها سجينة زمن آفل وعاجزة عن التكيّف مع متطلبات العصر، فضلاً عن عدم ملاءمة العديد من المهارات المطلوب تحصيلها في التربية الحديثة مع أنماط في التديّن والعيش مطلوبٌ تحصينها في مدارس الطوائف الدينية. في أية مناهج يتعلّم أبناؤنا؟ مناهجنا رثّة وتطويرها بطيء وغير مهني، فضلاً عن أن تطوير هذه المناهج لا يندرج في إطار خطة واضحة المعالم، مكتملة الرؤية، بل هو غب الطلب يحدث ظرفياً ووفقاً لأجندات الجهات المانحة. أية كتب مدرسية يستعمل أبناؤنا؟ الكتب المدرسية غارقة في الحشو وأحياناً ممتلئة بالمفاهيم الخاطئة. من يعلّم أبناءنا؟ معلّمون مجرّدون من حقوقهم، والعديد منهم بلا كفاءة للتعليم، يتم توظيفهم عن طريق المباريات في مجلس الخدمة المدنية ويفتقدون للإعداد التربوي الضروري. من يقوم بإرشاد معلمينا وتحسين كفاءاتهم وهدايتهم إلى طرائق التعلم الناشط وتحفيز مهارات التفكير والتحليل والأداء؟ مرشدون لا يملكون شيئاً من كل ما سبق، جاء نقلهم إلى جهاز الإرشاد كترضية أو منفعة وطفقوا يقتلون الوقت في الجهاز المشكوك أصلاً بشرعيته. من يقرّر في قضايا التربية والتعليم في لبنان؟ موظفون مترددون في دوائر القرار، بلا ملامح ولا إرادة، لا يملكون وضوح الرؤية ولا اكتمال النظرة إلى التطوير، ومنتفعون معهم يستحوذون على المشاريع التربوية المختلفة التي يتقاسمون ريعها المادي مع المحظيين والمقرّبين، دون أدنى دراسة جدية للأثر المرتجى وللمنفعة المتوخاة. ومع كل هذه النتائج المخيّبة والواقع المزري الذي انقلب إليه نظامنا التعليمي، يبقى وزير التربية في لبنان، على اختلاف الحقب، غير آبه بكل ذلك، غير منشغل بأي عمل تربوي جدّي ومن خلال رؤية تربوية واضحة المعالم لتحسين فعالية نظام التعليم.
* أستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية