مع اقتراب اللبنانيين من انهاء القرن الأول من العيش معا لا يزال كيانهم الهجين يعاني عيوبا تكوينية ناجمة عن غياب الإرادة الوطنية، بل غياب الشعور بالحاجة الى العيش معا بهدف صوغ قواعد لحياة واحدة وتوليد دينامية تساعدهم في التغلب على عيب النقص في التجانس بين مكوناتهم المختلفة مما يشيع الطمأنينة في نفوسهم ويوحي اليهم الثقة بالغد، فيمضون معاً، يدا بيد، الى القرن الثاني متحابّين، متحدين، متضامنين.
وسواء ادرك هؤلاء أهمية النظام الانتخابي الذي يتصارعون عليه، او لم يدركوا، فان المجلس الذي سيولد من رحمه سينقلهم الى القرن الثاني من عمر الكيان، لبنان الكبير او المكبَر الذي اعلن عام 1920.
والمفارقة الكبرى، في ما يجري، ان كومة الرمل والحصى التي تحدث عنها الأستاذ فؤاد بطرس، رحمه الله، لا تزال في مكانها تنتظر من يبث فيها روحاً تحولها بناء راسخ الأساس، متماسكاً في اجزائه كافة، يغري تنوع المقيمين فيه بالتساكن والتآلف والتضامن في ما بينهم، مما يكسبه مناعة في وجه العواصف والصواعق و»غدرات الزمان».
وقد كشفت التجاذبات والمناورات الجارية منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية قبل شهرين، وخصوصا الدوران الذي يجري حول مشاريع القوانين المختلطة التي تدفع في اتجاهها مزاعم بوجود «خصوصيات» طائفية ومذهبية ومناطقية ــــ ان لبنان لا يزال يعيش في عصر الانتداب حيث الطائفة هي الحزب، والوطن مجموعة مشاعات اشبه بكانتونات، بل منابذ مقفلة لها مصالح ومواقع وأهداف، كثيرا ما تتعارض مع ما يفترض ان يكونه وطن حر، سيد، ومستقل منذ 72 سنة!
والمؤسف ان الهم الوطني يكاد يغيب عن تفكير معظم السياسيين العاملين في المطابخ الانتخابية الذين اختزلوا الشعب باشخاصهم، بعدما روّضوا طوائفهم وحكموا باسمها على طريقة مقاطعجية أيام زمان، في حين كان موضوع الانتخاب وقانونه فرصة لمراجعة تجربة عيش معاً استمرت قرنا ورافقتها سلسلة من الخيبات المتتابعة التي تستأهل مؤتمراً او مجمعاً وطنياً تكون مهمته مراجعة الماضي ورسم ملامح المستقبل، على ان تشارك فيه كل القوى الحية والفاعلة في المجتمع من دون استثناء. وكان الرئيس حسين الحسيني اقترح مثل هذا المجمع للبحث في قانون جديد للانتخاب.
والذي يراجع المرحلة التي ولد فيها قانون الانتخاب الأول في لبنان والذي أصدره وكيل المندوب السامي الفرنسي روبير دو كاي بقراره رقم 1304 المكرر في 9 آذار 1922، أي بعد اقل من سنتين على اعلان دولة لبنان الكبير، يدرك اننا لا نزال هناك ولم نتقدم، لا سياسياً ولا وطنياً، في اتجاه الوحدة المجتمعية المنشودة، والانسجام الذي من شأنه طمأنة الأجيال الطالعة الى غد واعد بالسلام والاستقرار والازدهار وهناء العيش.
وقد نسف الانتداب التوازن الذي كان قائما أيام المتصرفية، واعتبر بروتوكول 1861 الذي صدر في حزيران من ذلك العام نواة الميثاق الوطني بين اللبنانيين. فهو أزال امتيازات الاقطاع وخصوصاً تلك التي كانت عائدة الى زعمائهم، أي المقاطعجية، كما أزال التمايز بين المواطنين آخذا بقاعدة تمثيل الطوائف بنسبة واحدة، بصرف النظر عن العدد، فجاء مجلس الادارة ممثلا للطوائف الست الرئيسية: المارونية، والارثوذكسية، والكاثوليكية والسنية، والشيعية، والدرزية، بنسبة ممثلين اثنين لكل منها. أي لا امتيازات اقطاعية، ومساواة بين الجميع. وأكد بروتوكول 1864 المساواة فجعلها شاملة، كما تبنى الغاء امتيازات المقاطعجية.
واليوم، بعد الأنظمة الانتخابية التي استوحت اهداف الانتداب منذ الطائف، وخصوصا انتخابات 1992 التي قاطعها المسيحيون ووزع السوريون نوابهم على الكتل التي كانت موالية لهم، يعود المسيحيون الى الميدان مستوحين بروتوكول المتصرفية الذي كان للدول الخمس الكبرى دور رئيسي فيه، وخصوصا بريطانيا التي اقترحت الديموقراطية التمثيلية نظاماً مناسباً للبنان التعددي، ودخلت في مواجهة بسببه مع الفرنسيين الذين نسفوه بمجرد انتدابهم على بلاد الأرز. وهم، أي المسيحيون، عندما يطالبون بصحة التمثيل وعدالته انما يعملون لاصلاح ما افسده الفرنسيون.

ماذا فعل الانتداب؟

أعاد الانتداب التمايز، كما اوجد طبقة جديدة من المقاطعجية لا تزال متحكمة باللبنانيين الى الآن.
ــــ اللجنة الإدارية لحكم لبنان الكبير تألفت من 15 عضوا، 10 مسيحيين و5 مسلمين.
ــــ المجلس التمثيلي (البرلمان) عام 1920 ضم 30 عضوا، 17 مسيحيا و13 مسلما. وجعل قرار المفوض السامي السن المؤهلة للانتخاب 25، خلافا لنظام المتصرفية الذي حدد السن الدنيا للمشاركة بالانتخاب بـ 15 سنة. وفي حين اشترط القرار ان يكون الناخب مجيدا للقراءة والكتابة، لم يحرم نظام المتصرفية الامي من ممارسة حقه في الاقتراع بل اجازه له شرط حضوره مع شاهدين يعرِفان به ويوقعان الى جانب بصمته.
ــــ في مجلس 1925: المسيحيون 17، المسلمون 11.
ــــ في مجلس 1937: المسيحيون 42، المسلمون 19.
واستمر الامر هكذا حتى بعد الاستقلال:
ــــ مجلس 1950: المسيحيون 42، المسلمون 33.
ــــ مجلس 1953: المسيحيون 25، المسلمون 19.
ــــ مجلس 1957: المسيحيون 36، المسلمون 30.
ــــ مجلس 1960: المسيحيون 54، المسلمون 45.
الى ان جاء الطائف ، بعد حروب بين اللبنانيين دامت 20 سنة، فأحيا توازن المتصرفية بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين 64 على 64 ، من دون ان يلغي المقاطعجية ويا للأسف.

نظام دو كاي

وكان نظام دو كاي نواة دستور ولدت بموجبه «هيئة ناخبة لمجلس نواب لبنان الكبير» في عملية تتم على درجتين، أي ان الشعب لا ينتخب نوابه مباشرة، بل ينتخب مندوبين يتولون بدورهم انتخاب النواب.
وقد وضعت قيود كثيرة على الافراد الذين تتألف منهم هذه الهيئة بحيث شكلوا بين 15 و18 في المئة من مجموع المواطنين. واستمرت هذه القيود، ويا للأسف، الى أيامنا هذه وخصوصا شرط السن الذي راوح بين 21 و25 سنة، في مقابل 15 سنة أيام المتصرفية. وشرط السن هو الأخطر بين العوائق اذ يحرم قرابة 40 في المئة من حق المشاركة في الاقتراع!
وعكست الصحافة المحلية، لدى البحث في قانون الانتخاب الأول مطلع الانتداب ــــ وأورد ذلك الباحث الرصين ميشال مرقص في كتابه الموسوعي «الجمهورية قبل ان تنهار» ــــ أصداء المعارك التي كانت دائرة آنذاك حول القانون المناسب:
ــــ جريدة «البرق» طالبت بأن يكون «الانتخاب على قاعدة المندوبين الثانويين»، الا انها ما لبثت ان بدَلت رأيها في ضوء ردود الفعل الشعبية الرافضة.
ــــ «المعرض» دعت الى ان «ينتخب كل فرد من الشعب ممثليه ليكون الشعب كله مسؤولا عن نوابه اذا ما اخطأ هؤلاء النواب في واجبهم نحو الوطن، ذلك بأن الانتخاب الثانوي يجعلنا في ريبة دائمة من صحة انتخاب النواب (...) لذلك لا يمكننا ان نضع ثقتنا بأفراد تمكنوا بواسطة نفوذهم المالي ونفوذ السلطة الحاكمة من التأثير على المرشحين لانتخابهم».
ــــ صحيفة «الحقيقة» حضَت على عدم المراوغة والمناورة، والتوجه نحو «اللعب على المكشوف» على أساس «ان الطائفة السنية ترِجح القائمة الطائفية»، باعتبار «ان الطائفية هي الحزبية، فالطائفة الإسلامية هي حزب المعارضة، بينما الطائفة المسيحية هي حزب التجزئة ولبنان الكبير، أي حزب الموالاة».
ــــ وكان هناك أيضا من طالب بمنح المغتربين حق الاقتراع.
واللافت ان المندوب السامي لم يعر ما يريده الشعب أي اهتمام، على رغم ان صك الانتداب ينص صراحة على ان «يصبغ الدستور اللبناني بالاتفاق مع السلطات الوطنية»، فأقر نظام الانتخاب غير المباشر للنواب. واستمر العمل بهذا النظام حتى عام 1934 حين اصبح الانتخاب مباشرا وعلى درجة واحدة.
وها هم المقاطعجية والاعيان والاقطاعيون والتجار يحاولون اليوم فرض قوانين انتخابية تؤَمن استمرارية نهب المال العام واغراق البلاد في مزبلة يصعب الخروج منها، لكونها مزبلة تاريخية كان ينبغي ان تطمربها الطبقة المتحكمة بالبلاد منذ الانتداب. فهؤلاء ابعد ما يكونون ممثلين للشعب الذي وضعت في دربه القيود والعراقيل بحيث بات الحكم، منذ الاستقلال، حكم اقلية لاكثرية مظلومة وصابرة في انتظار الفرج!

هدف واحد: تحرير الإرادة الوطنية

ان قانون الانتخاب الذي يجري البحث عنه ليكون جواز المرور الى القرن الثاني، يجب ان يكون له هدف وحيد هو تحرير الإرادة الوطنية من النفوذ المالي والطائفي والمذهبي، إضافة الى التدخل الخارجي، على انواعه، اذا اردنا حقا إقامة وطن، وبناء دولة حرة، سيدة، ومستقلة يفخر بها أبناؤها وتوحي لهم ولاجيالهم الطالعة الاطمئنان الى الغد، على أساس ان تكون الانتخابات «الوسيلة العملية التي تمكِّن الشعب من توجيه الحكم على نحو يلائم رغباته وحاجاته» على ما قال العالم الدستوري الدكتور ادمون رباط. وهذا الامر يستدعي «اللعب على المكشوف»، ولكن بغير ورق اللعب الطائفي والمذهبي «الملغوم»، بل بأوراق نظيفة وطنية تفضي الى انتاج جيل سياسي جديد، صحيح التمثيل وعادله، جدير بأن ندخل واياه القرن المقبل بنيات صافية للانتقال من العيش المشترك الى الاندماج التدريجي والانسجام بعد الغاء الطائفية السياسية التي تعتبر اخطر معوق للتعبير عن الإرادة الوطنية.
ورب سائل: بعد كل هذا الكلام هل في البال مشروع ممكن؟
ربما يكون الجواب في التأهيلي، باعتبار ان مرحلة التحرر من النظام الطائفي تحتاج الى وقت تحدث عنه واضع الدستور ميشال شيحا بقوله ان استمرار كيان لبنان وديمومته يحتاج الى وقت «فلا تبخلوا عليه به». وسبق للرئيس حسين الحسيني ان طرح مشروعا في هذا الشأن، وايده فيه البروفسور فايز الحاج شاهين، وهو يقضي بالتأهيل الطائفي على مستوى القضاء الذي يحضن العيش المشترك الطبيعي، وحدوده معروفة، أي لا حاجة الى تقسيمات مصطنعة ولا الى فرز وضم، على ان تجري المرحلة الثانية على أساس وطني عبر تحالفات سياسية بين ممثلين شرعيين للطوائف. ولا شك في ان النسبي هو افضل الأنظمة وأعدلها.
فهل الوقت متاح للعب على المكشوف؟
* صحافي وكاتب سياسي