يُغري لبنان القناصل. ثمة جيش من السياسيين والمستوزرين و»المستنوبين» ورجال الأعمال والدين والإعلاميين و»المفاتيح الاجتماعية» والمثقفين وأشباههم، ممن يعبدون القناصل. لا يستمدون القوة إلا من السفارات. لا يرون أمراً نافذاً إلا متى صدر عن دولة «كُبرى». يُقال إن السفير الفرنسي الأسبق إلى بيروت، برنارد إمييه، أصيب باكتئاب حاد بعدما صار سفيراً لبلاده في تركيا. ففي بيروت، كان إمييه، زميل جيفري فيلتمان في «هندسة» نظام ما بعد الانسحاب السوري من لبنان.
وكان ضيف شرف في مجالس وعلى مآدب لا تُعَدّ ولا تُحصى. كلمته لا تُرَدّ. أعلى من الدستور، وأكثر تأثيراً من القانون. لا فرق بينه وبين أي مندوب سامٍ حَكَم لبنان قبل عام 1943، إلا بالصلاحيات المكتوبة. أما في تركيا، فهو مجرّد سفير، يُمثّل مصالح بلاده. لا خدم. لا مواكب. ولا تصفيق يصاحب دخوله المجالس. لا يُهدَى. لا يُدعى. ولا سياسيين مستعدون لفعل أي شيء، طمعاً بتوصية من «سعادته» بدسّ أسمائهم في لائحة من سيمنحهم الإليزيه وساماً ما.
«ثقل» السفير الفرنسي في بيروت يفوقه بأضعاف «وزن» السفير الأميركي. هو إله الكثير من الساسة. فيما يُنظر إلى السفير البريطاني، وممثل الاتحاد الأوروبي، كأنبياء على أقل تقدير. في السنوات الماضية، أضيف إلى لائحة المعبودين اسم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة. هذه الهيئة الدولية العاجزة عن فعل أي شيء في العالم، لها مندوب سامٍ في لبنان، يصول ويجول، من بيت سياسيٍّ إلى آخر، ومن وزارة إلى إدارة، ومن جمعية إلى أخرى، بلا أن يقطع الطريق عليه أحد. فللأمم المتحدة «ألوية» من الموظفين في الإدارات الرسمية اللبنانية. تدفع الدولة الجزء الأكبر من رواتبهم الخيالية (وتحصل الأمم المتحدة على عمولة) ليكونوا رديفاً للإدارة الرسمية، وليحلّوا، في كثير من الأحيان، محلّها. ولأنه لبنان، يُصبح ممثل الأمين العام للامم المتحدة مندوباً سامياً، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. سيغريد كاغ، تشغل حالياً هذا المنصب. وهي التي استفزّها كلام الرئيس ميشال عون أول من أمس، عن دور المقاومة في لبنان، فذكّرتنا بالقرار 1701، وبكل الهراء المعروف عن «نزع سلاح كل الجماعات المسلحة». هذه السيدة التي لا تكترث بأي خرق إسرائيلي للسيادة اللبنانية، ولا احتلال داعش لجرود عرسال، وتعمل موظفةً من الدرجة التاسعة في الإدارة الأميركية لناحية رفض تقوية الجيش اللبناني، قالت لموقع «النهار» أمس إن كلام عون «مقلق». ثم عادت ونفت، عبر «أل بي سي آي»، أن تكون قد ردّت على عون. الحق يُقال، أنّ كلام عون مقلق فعلاً. فللمرة الأولى منذ عشر سنوات، يصطدم «المجتمع الدولي» بمسؤول رسمي لبناني، وبهذا المستوى، يقول الأمور كما هي. لا شك في أنها مستفَزّة من خطابه أمام جميع السفراء المعتمدين في لبنان، الشهر الفائت، عن القضية الفلسطينية. اعتادت، هي ونظراؤها، وجود مسؤولين لبنانيين يطلبون من الأميركيين أن يضاعف العدوّ حدة عدوانه في تموز 2006. ويُغضبها، لا شك أيضاً، تمسّك ميشال عون بقانون انتخابي عادل. فهي، بالمناسبة، تجول محذّرة من اعتماد قوانين انتخابية معيّنة، في كلام لا يُفهم منه إلا الدعوة إلى التمسّك بقانون «الستين». لكن للأمانة، يجدر شكرها على شجاعتها. فهي تولّت أمس النطق باسم زملائها الأميركي والبريطاني والفرنسي والأوروبي، المستائين بدورهم من عون ومواقفه، والرافضين لأي مسار يحمل في طياته ولو احتمال التأسيس لبناء دولة قوية في لبنان. فما يناسبهم هو المزرعة الخانعة التي تستجدي الحماية منهم، لا أكثر. سيدة كاغ، شكراً على جرأتك. لكن موتي بغيظكِ. باتت المقاومة اللبنانية قوة إقليمية عظمى. وقدراتها تتعاظم يوماً بعد آخر، تسليحاً، وتجهيزاً، وقوة بشرية، وسلاحاً كاسراً للتوازن، شمالي الليطاني، وجنوبه. أما القرار 1701، فآخر ما يخطر ببالنا. أصلاً، يمكن تخيّل أن رجال المقاومة الذين يحفرون صوامع الصواريخ نسوا وجوده، أو أنهم لم يكبّدوا أنفسهم عناء السماع به أصلاً. همّهم الوحيد، كحرصاء على أمن بلادنا، مراكمة قوة مقاوتنا. والكثير من اللبنانيين لن يرضوا من المقاومة بأقل من حصولها على قنبلة نووية. سيدة كاغ، هذه البلاد على عكس ما تبدو لك. ثمة فيها من يرونها دولة مستقلة، ذات سيادة. ومِن هؤلاء رجل يقف على رأس هرم السلطة، اسمه ميشال عون.
سيدة كاغ، قولي جميلاً، أو اخرسي.