لا يجب أن يقلّل أحدٌ من أهمية ما جرى في واشنطن قبل يومين، ولو تضافر الإعلام العربي المهيمن على تمييع الحدث ومعناه، وتذكيرنا من جديد بالتهديد الإيراني وخطره الوجودي. المسألة لا تقتصر على أنّ الرئيس الأميركي قد ألغى ــ بجملة واحدة ــ فكرة الدولة الفلسطينية المستقلّة، «المكتسب» الوحيد الذي بقي للفلسطينيين من عمليّة أوسلو، بل أنّه فعل ذلك بكلّ يسرٍ وسهولة، ولم تصدر هنَة احتجاجٌ من أحد. كأنّ ترامب لم يقم إلّا بتأكيد واقعٍ قائم يعرفه الجميع، وقد فهموه وتقبّلوه، باستثناء المفاوض الفلسطيني.
الدّولة الكذوب

حتّى نتذكّر تسلسل الأمور وكيف وصلنا إلى هنا: في عهد بيل كلينتون، كانت إقامة دولة فلسطينية («مستقلّة وذات سيادة وقابلة للحياة» بحسب التعبير الشهير للإدارة الأميركية آنذاك) تعتبر حقّاً مكتسباً، مفروغاً منه، والنتيجة المحسومة لـ»عملية السّلام». وكان التفاوض والخلاف يقتصران على مسائل الحدود والإجراءات ووضع القدس، والتزامات إسرائيل تجاه اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم من ديارهم. في عهد جورج بوش، استمرّ تبنّي خطاب «الدولة الفلسطينية»، ولكن، هذه المرّة، أصبحت فكرة الدّولة والسيادة مشروطة وليست بديهيّة. بمعنى آخر، الفلسطينيون يستحقّون الحصول على دولة، من المنظور الأميركي، ولكن بشروط: أن يتخلّوا عن «العنف» و»الإرهاب»، أن يعترفوا بإسرائيل، ألّا ينتخبوا «حماس»، أن يحبّوا سلام فياض، إلخ… وقد تكرّست قاعدة أنّ الدّولة الفلسطينية، ولو قامت، فهي لن تكون «سيّدة» بالكامل و»وطنية» كما يتخيّل أبناء أي حركةٍ كفاحيّة وطنهم المحرّر، بل هي ستكون في ما يشبه حالة «انتداب» دوليّة دائمة، يشرف عليها الأميركيون والإسرائيليون والمموّلون و»المجتمع الدولي»، لضمان أن تلتزم شروط الديموقراطية والحوكمة و»ثقافة السلام».
اليوم يقول الرئيس الأميركي، الذي يُفترض أنّه «الضامن» الوحيد لعملية السلام وتنفيذها، إنّ الدّولة الفلسطينيّة لم تعد إلّا محض خيارٍ بين خيارات أخرى؛ ولا يخدعنّكم هنا تعبير «الدولة الواحدة»، فمعناه الفعلي هو «لا دولة» للفلسطينيين، واستمرار الاحتلال وتشريعه إلى الأبد (إلّا إن كنت تؤمن بأنّ نتنياهو يتهرّب من إعطاء الفلسطينيين أقلّ من خُمس أرضهم التاريخية من أجل أن يعطينا دولة علمانية ديموقراطية متساوية في الحقوق). بتعبير آخر، لم تعد الدّولة الفلسطينيّة حقّاً وطنيّاً وتاريخيّاً للفلسطينيين، والتزاماً واقعاً على إسرائيل، هي مجبرة على تنفيذه بضمان حكومة الولايات المتّحدة الأميركيّة؛ بل أصبح خيار إقامة دولةٍ من عدمه مفتوحاً للتفاوض، ولأيّ اتّفاق يتوصّل إليه الإسرائيليون مع الفلسطينيين، بكلمات ترامب، أي الاتّفاق الذي يستخرجه الخاطف من رهينته.
كانت كلمات ترامب كالموسيقى على أذن نتنياهو، الذي بدا مرتاحاً في رفقة الرئيس الأميركي أكثر من أيّ قائد دولةٍ التقى به إلى الآن. حتّى جملة ترامب حول المستوطنات جاءت لتدعم موقف نتنياهو (بدلاً من اعتبار المستوطنات القائمة موضع خلافٍ قانونيّ، وأنّ بناء أي مستوطنات جديدة هو عملٌ عدائي وغير شرعيّ وغير مقبول، وهذا كان الموقف الدائم للإدارات الأميركية، طلب ترامب من رئيس وزراء الكيان، بلطفٍ، أن يوقف «مؤقّتاً» بناء المستوطنات، كأنّه لا توجد مشكلة في المبدأ). طوال السّنوات الماضية، راهن نتنياهو على تجاهل مطالب الرئيس الأميركي السابق، ولو كانت شكلية، واستمرّ ببناء المستوطنات وإقرار القوانين العنصريّة في الداخل، معتبراً أنّه، حتّى ولو غضب منه أوباما و»قاطعه»، فهو لن يفعل شيئاً عملياً ضدّه. والكونغرس ــ لو خُيِّر ــ سيقف مع إسرائيل ضدّ الرئيس الأميركي. هكذا يحمي نتنياهو نفسه سياسياً في الدّاخل ويخلق وقائع جديدة على الأرض، ويعتاد الأوروبيون وغيرهم فكرةَ الفصل العنصري في إسرائيل ونظام الاحتلال الدائم، وستأتي ــ في نهاية الأمر ــ إدارة أميركية جديدة تقبل بهذه الوقائع وتنطلق منها. ويبدو أنّ نتنياهو قد فاز في رهانه. وسط تبادل النكات والابتسامات مع الرئيس الأميركي الجديد، مال رئيس الوزراء الإسرائيلي صوب صهر دونالد ترامب، جارد كوشنر، في خلال المؤتمر الصحافي ليشرح للحاضرين أنّه يعرف كوشنر منذ صباه، وأنّه صديقٌ قديمٌ للعائلة. كوشنر سيكون مبعوث ترامب لـ»عملية السلام» بين الفلسطينيين والصهاينة.

الصهيونية ومشروع الإبادة

في دراسته عن بدايات مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، يستنتج وليد الخالدي أن استراتيجية الحركة الصهيونية قد حكمتها ثنائيّة «الدّعاية والتنفيذ» (propaganda and implementation)؛ بمعنى أنّ الصهاينة يصمّمون خطاباً موجّهاً إلى الخارج أو إلى العرب من حولهم ليكون مناسباً على المستوى التكتيكي، ثمّ ينفّذون على الأرض مشروعهم المرسوم سلفاً بصرف النظر عن كلام السياسيّين. هكذا، مثلاً، كان الصهاينة في العشرينيات والثلاثينيات يدّعون، في محافل أوروبا، أنّ فلسطين أرضٌ شبه فارغة، وأنّهم لا يأخذون مكان أحد، ويسعون إلى علاقة جوار وتآخٍ مع العرب، فيما هم يعملون ــ في فلسطين ــ على خلق مناطق يهودية وطرد العرب منها. أو كانوا يحاولون إغراء العرب الفلسطينيين بمنطق أنّ مجيء يهود أوروبا سينعكس رخاءً وفائدة عليهم، وسيرتفع ثمن الأرض ودخل العامل، فيما هم يعدّون ــ في الوقت ذاته ــ خطّة التطهير العرقي.
من هنا، لا يجب أن نفهم خطاب نتنياهو (وشارون، ومن قبلهم)، وكامل «عمليّة السّلام» وما أحاط بها، إلّا كاستمرارٍ لهذه الاستراتيجية الصهيونية القديمة؛ وما دونالد ترامب بالنسبة إلى نتنياهو والصهيونية إلّا حلقة في سلسلة تتقدّم باتّجاه الهدف النهائي (والهدف النهائي لنتنياهو بسيطٌ وواضح، وقد آن لنا أن نعترف به وأن نعمل على هذا الأساس: مثلما أنّ الأكثرية الجيّدة في شعبنا ترغب في تحرير أرضها من الصهيونيّة كاملةً، فإنّ نتنياهو يريد «تحرير» ما يعتبرها «أرضه» من شعبنا، وهي كامل فلسطين). باللغة القانونية والسياسية، الخطّة التي سيطرحها نتنياهو على الفلسطينيين معروفةٌ أيضاً، وقد شرحها بإسهابٍ في كتابه «مكانٌ بين الأمم» منذ سنواتٍ طويلة (وكان طرحه، حينها، يعتبر متطرّفاً وغير واقعي). الفلسطينيّون، يكتب نتنياهو، لا يستحقّون دولةً في المناطق المحتلّة (هو يعتبر أنّهم يمتلكون بالفعل دولة، هي الأردن)، بل يلزمهم شكلٌ محلّيّ من «الحكم الذاتي»، بحيث ينتخبون مخاتير وبلديّات تدير شؤونهم المباشرة، وهذه «الديموقراطية الخفيفة» تكفيهم ــ ويضيف نتنياهو أنّهم، هكذا، سيعيشون في وضعٍ أفضل وأكثر حريّة وسعادة من غالبية العرب في الدول التي تحيط بهم. المشكلة ليست في أنّ الواقع يتّجه صوب تحقيق «نبوءة» نتنياهو، بل في أنّ هذه الرؤية التي طرحها الصهيوني اليميني هي ليست، حقيقةً، منتهى مشروعه، بل هي «البروباغاندا» التي تخفي خلفها خطّةً أكثر جذرية للتطهير العرقي وتدمير المجتمع الفلسطيني.
المعضلة الثانية هي أنّه لم تبقَ هناك تنازلات ممكنة وقد وصلت «السياسة»، في المفاوضات بين الصهاينة والفلسطينيين، إلى نهايتها. بعد الاعتراف بإسرائيل، وقصر «الشعب الفلسطيني» على أهل الضفة وغزّة وإخراج اللاجئين من المعادلة؛ وبعد تخلّي «فتح» عن مشروع الكفاح المسلّح، انتهى موقع الفلسطيني (خارج غزّة المحاصرة والمدمّرة، وهنا المفارقة) ككائن سياسيّ، لديه ما يعطيه ويأخذ به ويفاوض. ما اشترطه نتنياهو على الفلسطينيين ــ من واشنطن ــ لم يكن مجرّد الامتثال للاحتلال، والعيش تحت نظام الفصل العنصري وحرمان الحقوق السياسية (فهذا واقعٌ قد فُرض)؛ هو يريد منهم أن يشرّعوا هذا الواقع وأن يعترفوا بإسرائيل «دولةً يهوديّةً». أي أن يوافقوا على المنطلقات العنصرية لليمين الصهيوني. بل إنّ مطالب نتنياهو لم تعد سياسيّة وإجرائية، تتعلّق بالحدود أو الأمن، بل صارت «شروطه» من نمط أنّ على الفلسطينيّين أن ينهوا «ثقافة الكراهية» في مجتمعهم، وأن يحبّوا إسرائيل، وأن يتوقّفوا عن المطالبة بأرضهم وتربية أولادهم على أنّها حقّ لهم. لم تعد «عمليّة السّلام» طريقاً مؤقّتاً إلى حلّ «دولتين متجاورتين»، بل تفاوض على الشروط الاستعمارية التي ستُفرض على الشعب الفلسطيني، وشكل تعليمه وخطابه وثقافته (بالحديث عن «ثقافة الكراهية»، لا ضرورة هنا للتذكير بأنّ تحالف نتنياهو يتشكّل من أحزاب فاشيّة وعنصريّة بلا خجل، يبدو هو أمامها «حمامةً» ومفرّطاً).

أن تختار طريقك

الخيار، بالمعنى الاستراتيجي والأعمّ، واضحٌ منذ زمنٍ بعيد، ولم يكشف لنا ترامب شيئاً جديداً. كلّ ما في الأمر هو أنّه أصبح بالإمكان التوقّف عن التّظاهر والتمثيل. لا حاجة لأن تشرعن السّلطة الفلسطينية لنفسها تحت شعار أنّها نواةٌ لدولةٍ مستقبليّة، «مستقلّة وذات سيادة»، فهذه لن تأتي (ولا حتّى كواجهة). وإن كان الضّامن في هذه المقامرة المرعبة بأسرها، منذ عام 1993، هو الأميركيين وتعهّدات «المجتمع الدّولي»، فها هم الأميركيون يقولون لنا بوضوح إنّ اللعبة انتهت وإنّهم لا يدينون لنا بشيء. أصبح من الأفضل لـ»السلطة الوطنية» أن تتوقّف عن لعب دور الدّولة، ولو شكليّاً، فهي ليست دولة إلّا «أمام الداخل»، في وجه مواطنيها. تقمعهم وتضبطهم وتأخذ أموالهم. ولكنّها ليست دولةً بالمرّة «أمام الخارج»، تحمي شعبها وتدافع عنه وتصون مصالحه، وهذه ليست حالٌ يقبلها عاقل أو تستحقّ أن تستمرّ.
غزّة قد تكون أوّل من يدفع الثّمن، والخيار هنا أيضاً واضح: إمّا أن تكون جزءاً من المنظومة الاستعمارية في فلسطين، أو تكون جزءاً من منظومة المقاومة. الغباء هو ليس في أن ترضى بالقدر الذي يرسمه لك نتنياهو (ومع تدفّق تمويل السلطة والمنظمات الغربية والخليج على فلسطين، أصبح هناك مجالٌ للكثير من النخب الفلسطينية حتى يتخيّلوا حياةً «جيّدة» و»ناجحة» لهم، ولو كانوا مستعمَرين وشعبهم تحت الاحتلال)، والغباء ليس في أن تركز آمالك على أعداء فلسطين وتحالفهم، وتعتمد على وعود الخليج وأميركا، ولا حتّى في أن تقف مع العملاء ضدّ المقاومة؛ هذه الأمور هي ببساطة خيانة. الغباء هو أن تتصوّر أن وضعيّة الذلّ هذه، إن قبلت بها، ستكون منتهى الأمور والحلقة الأخيرة في مسلسل التطهير العرقي الذي يستهدف الشعب الفلسطيني.
إثر كلام ترامب هذا الأسبوع، علّق عربيّ ــ من النخبة «الجديدة» التي تدعم النضال الفلسطيني بشروط المنظّمات الدوليّة وخطابها ــ بأنّ إنكار حقّ الدّولة الفلسطينيّة هو أمرٌ إيجابي؛ والتبرير ــ لست أمزح ــ هو أنّه «سيكشف إسرائيل أخيراً» أمام العالم كدولة أبارتهايد (فنكون انتصرنا). في وسعك أن تحلم باستعادة فلسطين عبر هذه الثقافة، أو أن تفهم السياق التاريخي لفلسطين اليوم وطبيعة العدوّ الذي نواجهه وعواقب الهزيمة، وأنّ الخيار أصبح، ببساطة، بين أن تخسر كلّ شيء، أو أن تكون المقاومة كلّ شيء.