حلا عمران تعوي في ظلمة المسرح، فيمزق عواؤها صمت «المدينة». يلتقط الجمهور أنفاسه، يبتلع غصته، ترتعد منه الفرائص. نحن هنا منذ أكثر من ساعة عالقون في الفخ: بين ضجيج يصرع ويهز الجهاز العصبي (أهي أصوات النفاثات والمروحيات المغيرة؟ أهذا الصخب التكنولوجي يعلن نهاية العالم؟) وأنين خافت ورثاء يفتت الفؤاد، بين ظلام الموت وبصيص أمل، بين جمود يحاكي آلاف الجثث المرمية في وجداننا الجماعي، ورقصة موت مينيمالية تحاول أن تتشكل وتبزغ، تجمع الحداء والحوربة واللوعة والنبض المقاوم، والعودة إلى الدنيا، والتمسك بالحياة رغم كل شيء...
حلا عمران، كاهنة هذا الاحتفال المأسوي، تطلق أصواتاً غريبة مخيفة. تعوي وتصرخ، عند ذروة الاحتفال التراجيدي. من بركان الداخل تتفلّت شحنات اللوعة والغضب، والاحتجاج على ظلم عظيم، والاستغاثة واستشراف الكارثة أو الانصهار فيها. «العواء» هذا التعبير الحيواني الغريزي الطالع من أعماق الأم والحبيبة الثكلى، في الليل الدامس، في أدغال الوحشية البشرية، هذه الاستغاثة الكونية من قلب المأساة، عند قمة اليأس والإحساس بالعدم. العواء مجدداً. شكل من أشكال الندب والبكاء واللطم والحداد والرثاء الكثيرة التي تشكّل عالم علي شحرور ولغته. حلا عمران الذئبة الجريح، تشد العرض بأعصابها وصوتها وجسدها ودموعها وأدائها، وطاقتها النابعة من الداخل، وتفاصيل أنوثتها، وتماوج حركاتها، وتمايل رأسها كما في تعبّد الدراويش وهستيريا الندابات. هذه الفنانة السورية المتعددة القدرات تعطي للعرض روحها وجسدها وذاكرتها، تجوّد وتنشد وتندب وتهدهد وتغني... وترقص طبعاً. الرقص هذه المرّة أيضاً، يقطّره علي شحرور تقطيراً، كما عوّدنا. يجعل موسيقيّيَه يرقصان (علي حوت وعبد قبيسي)، وهما يضبطان إيقاع الموكب الجنائزي البلا نهاية، بالبزق والدف والمزمار... ويحملانه الى الذروة، حتى الاستنزاف التام والإرهاق وانقطاع النفَس. نفَس الحياة.
لكن لنعد الى حلا، فهي الحجر الأساس في هذا العمل الذي يتغذّى منها. علي كتب لنفسه كوريغرافيا تدور في فلكها بمفرداته الحركيّة المكثفة والمقتضبة والمؤسلبة، من هزّ البطن والدبكة إلى تمثّل صور الأيقونات والأساطير. الرؤيا الفنّية للعمل تتغذّى أيضاً من عنصر خارج عن النص، هو جرح الهويّة الذي تحمله الفنانة المميزة. كيف يمكن أن نتجاهل أن الكاهنة التي تحيي هذه المرثية لموتنا العربي الجماعي، آتية من سوريا؟ كيف لا نُسقِط مأساة بلدها وشعبها على العرض؟ علماً بأن صناع العمل (جنيد سري الدين يمسك بقوّة بخيوط الدراماتورجيا)، يقولون الوجع بحياء مطلق، ويبتعدون كل البعد عن أي خطاب ديماغوجي، مبتذل أو مباشر. «عساه يحيا ويشم العبق» يقوم على خطاب جمالي صرف، ومرجعيات ثقافية مركبة (أدبية، دينية، بصرية وميثولوجيّة). نحن في حضرة احتفال تراجيدي مجرد، تتقاطع عنده المأساة بالمعنى الإغريقي الصرف، مع المناخات الكربلائية التي تسكن مخيلة علي شحرور وذائقته. كما تتواشج الأساطير القديمة مع الموروث الشفوي للحضارة العربية. العرض مرصّع بكلام الله (سورة القيامة) بأمانة وصدق واحترام، في تكامل عضوي مع المقتضيات الدراميّة. ويعرّج على «نهج البلاغة»، إذ نعيد سماع الإمام علي العائد من صفّين: «يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة…».
بهذا المعنى، نحن أمام عمل فني ناضج، سياسي بالمعنى العضوي الأعمق، بقدر ما هو فلسفي. جمالياته المشغولة بعناية كما المنمنمات، تختصر اللحظة العربية بقوة وبلاغة. عمل يغوص على الموروث الشعبي والتراث المكتوب وذاكرة الحضارات واللاوعي الجماعي. عمل، الإضاءة فيه بأهميّة الرقص والغناء والنص والموسيقى والسرد الملحمي. الضوء ينحت اللوحات ويؤطّر الإحالات الفنيّة إلى مراجع من ذاكرتنا الثقافيّة/ الطقوسيّة. من الضوء تتكوّن السحابة المجازيّة الشفيفة التي تغلّف موتنا، وتحوّل المسرح فضاءً ميتافيزيقياً وذاتياً، يختصر الأمكنة، ويمتد إلى العالم السفلي الذي ينزل إليه أورفيوس، ويعود منه تمّوز.
يعتقلنا علي شحرور وممثلته وموسيقيّيَه في هذه الدوامة التراجيدية، يستدرجنا إلى عالم سفلي بلا قرار. على خطى أورفيوس الذي نزل بحثاً عن حبيبته يوريديس وعاد الى العالم صفر اليدين... على خطى عشتار التي ستستعيد حبيبها تموز فينبعث مع الربيع، ويعود ليشم العبق. «عساه يحيا…» طقس جنائزي جديد من تلك الطقوس التي يملك سرها علي شحرور. الكوريغراف والراقص اللبناني الشاب يبلغ هنا ذروة المأساة، وذروة النضج في مسيرته الإبداعية. لعله يوقّع هنا، بعد «فاطمة» (٢٠١٤) و«موت ليلى» (٢٠١٥)، الجزء الأخير من ثلاثية الموت والحياة، إذا جاز تسميتها كذلك. يرقص قليلاً، نعم! يلعب على التكرار والنمطية. يقاطع الرجولة بالأنوثة من خلال جسده، اللطميات مع الدبكة، المقدس مع الحسّي، السماوي مع الأرضي، الديني والدنيوي، تاناتوس وإيروس. فنان فريد من نوعه في الرقص المعاصر العربي، بهواجس توظيف التراث الديني في الفضاء الفلسفي والمدني والوجودي. علي شحرور فنان خطير بنظرته المندهشة التي تحاول أن تتبرأ وتعتذر وتحاسبنا. لكن هذه المرة أكثر من الأعمال السابقة، من قلب الموت تنبت الحياة. تمثال عشتار البابلي على الملصق يقول كل شيء. كما السورة الكريمة التي يفتتح بها العرض. أسطورة تموز تعدنا بربيع مقبل. لا بد لموتنا الطويل من أن يتمخض عن لحظة القيامة.

عرضان أخيران الليلة وغداً في «مسرح المدينة» (الحمرا، بيروت) - للاستعلام: 01/753010