في ظل الفيتوات التي يملكها حاملو المفاتيح السنّية والشيعية والدرزية، وحديثاً المسيحية، سيكون من المتعذّر الاتفاق على مسودة قانون جديد للانتخاب، تأخذ في الحسبان مصالحهم السياسية والانتخابية جميعاً على نحو متكافئ، ومن ثم ذهابهم الى الانتخابات النيابية العامة قبل 20 حزيران.ما هو معلن أن المصالح تلك تتعارض إحداها مع الاخرى، بعدما باتت القاعدة التي تقبض على الاتصالات والاجتماعات تقوم على ركيزتين: أولى وجود فريق يتمسك بالحصة النيابية التي اعتاد الحصول عليها منذ انتخابات 1992، وثانية وجود فريق آخر يطالب بالحصة تلك وقد انتزعت منه مذذاك.
لا الفريق الاول جاهز للتخلي عن مقاعد بالجملة في حوزته، ولا الفريق الثاني جاهز لإهدار فرصة استثنائية في هذا الوقت بالذات، ومع هذا العهد تحديداً، من شأنها أن تعيد التوازن التقليدي الذي عرفته الحياة النيابية على مرّ عقود ما قبل اتفاق الطائف.

بإزاء خطين يسيران متوازيين، من الصعب توقّع التفاهم على قانون جديد للانتخاب يُفسَّر في نهاية المطاف على أن خطاً انحرف نحو الخط الآخر كي يلتحق به. وهو مغزى ترداد القول إن المعركة الصامتة تدور من حول الاحجام والتحالفات فحسب.
يكاد جبل لبنان الجنوبي (دوائر الشوف وعاليه وبعبدا) يختصر المشكلة برمتها، على نحو يفسح الاتفاق على إخراج تقسيم دوائره في بناء آمال على قانون جديد للانتخاب، يعيد الكتل المنتفخة في أكثر من دائرة وأكثر من محافظة الى حجمها الطبيعي والحقيقي.

يخوض جنبلاط معركة الفيتو على قانون الانتخاب لا على حصته

في جبل لبنان الجنوبي يلتقي الجميع على أرضه: الدروز والمسيحيون والسنّة (الشوف) والدروز والمسيحيون (عاليه) والمسيحيون والشيعة والدروز (بعبدا). هو المكان الذي لم يعرف في تاريخه، في ظل قانون 26 نيسان 1960 على الاقل مذ أصبح أقضية ثلاثة، استثئار فريق لوحده به، أو بثلثيه أو بثلثه حتى. لم يعرف أي من الاقضية تلك في الانتخابات النيابية كما في مسار اللعبة السياسية عموماً زعيماً أوحد: في الشوف كانت زعامتا كميل شمعون وكمال جنبلاط، وفي عاليه زعامتا مجيد ارسلان وكميل شمعون قبل أن يدخل عليهما عام 1972 كمال جنبلاط، وفي بعبدا تنافس حزبا الكتائب والوطنيين الاحرار الى بشير الاعور وشخصيات مستقلة في الطوائف الثلاث.
ذلك ما عرفته على التوالي دورات 1960 و1964 و1968 و1972. بعد اتفاق الطائف، في ظل الحقبة السورية إذ لم تكتفِ بتوزيع المقاعد على حلفائها بل أيضاً إقطاعات المدن الكبرى والصغرى والبلدات، أُعطي ثلثا جبل لبنان الجنوبي للنائب وليد جنبلاط (الشوف وعاليه)، والثلث الثالث لحركة أمل وحزب الله (بعبدا). يفوز المسيحيون حلفاء جنبلاط في الثلثين الأولين، ويفوز المسيحيون حلفاء سوريا من غير أن يكونوا بالضرورة حلفاء الثنائي الشيعي كالياس حبيقة وجان غانم في الثلث الثالث. أكثر من نصف مقاعد الدوائر الثلاث (19 مقعداً) يشغلها مسيحيون (8 موارنة وكاثوليكي واحد وأرثوذكسي واحد)، في مقابل خمسة مقاعد درزية ومقعدين سنّيين وآخرين شيعيين.
في الدوائر الثلاث هذه التي هي قلب جبل لبنان القديم، أكثر من نصف مقاعد الدروز فيها. خمسة من ثمانية. وهو مغزى ما يردده جنبلاط والقريبون منه بالقول إن في اثنتين من الدوائر الثلاث تلك ينتخب الدروز نوابهم بلا منّة أحد. إلا أن هاتين الدائرتين ــ الى بعبدا القديمة ــ هي الدوائر التي اعتاد الناخبون المسيحيون انتخاب نوابهم. لم يكن انتصار «الحلف الثلاثي» في بعبدا وعاليه عام 1968 أقل أهمية من انتصاره في المتن وكسروان، كون الدائرتين الأخريين اللتين ترأس كلاً منهما قطبا «الحلف» كميل شمعون في الشوف وريمون إده في جبيل، اخترقتا.
اليوم، في ضوء تحوّلات ديموغرافية ليست قليلة الاهمية للدروز كما للموارنة، أصبح الصوت السنّي ناخباً رئيسياً في الشوف، والصوت الشيعي ناخباً رئيسياً مقرّراً في بعبدا. في ذلك يكمن مبرّر إصرار جنبلاط على الفيتو السياسي في وضع قانون الانتخاب، لا على حجم كتلته النيابية فحسب، وهو قلّما عوّل على دورها في البرلمان، تارة هي كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي وطوراً جبهة النضال الوطني ومرة ثالثة اللقاء الديموقراطي. مرة تكبر، وتصغر أخرى، أو تختفي وراء زعيمها على الدوام.
في ظل الحقبة السورية كان صاحب الفيتو الوحيد في قانون الانتخاب الذي يفرض الاستثناء بغية فصل دوائر جبل لبنان الجنوبي عن دوائر جبل لبنان الشمالي (انتخابات 1992 و1996)، كما صاحب الفيتو في الموافقة على دمج قضاءي عاليه وبعبدا في دائرة واحدة (انتخابات 2000). وللمرة الاولى منذ انتخابات 1992 ــ بعدما غادر السوريون لبنان ــ تخلى جنبلاط عن مقعد ماروني في الشوف في انتخابات 2005، وعن اثنين في انتخابات 2009 انسجاماً مع ائتلاف القوى في 14 آذار. تخلى أيضاً للسبب نفسه عن مقعد ماروني في عاليه في انتخابات 2005 وعن مقعد أرثوذكسي في انتخابات 2009. حالف حزب الله قبل أن ينفصل عنه في انتخابات 2009 في بعبدا. صار يقال إن جنبلاط الذي يمنع هو الذي أغدق على القوات اللبنانية وحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار المقاعد تلك. اليوم ثمة مَن يلوّح بانتزاعها بغية تكريس حق استعادتها، لا إهدائها الى هذا الحزب المسيحي أو ذاك.
على نحو كهذا يخوض الزعيم الدرزي الآن معركة المحافظة على الفيتو السياسي في قانون الانتخاب، أكثر منه الحصول على مقاعد. في برلمان 2009 الممدّد له احتفظ بـ11 مقعداً، اثنان منها منحه إياهما حليفه تيار المستقبل في بيروت والبقاع الغربي ــ راشيا. الفيتو بات متوفراً وقاطعاً، بدليل ما يشبه إجماع الافرقاء جميعاً على أن اياً منهم لا يوافق على قانون انتخاب لا يرضى به جنبلاط. فإذاً دوائر جبل لبنان الجنوبي، وتحديداً دائرتي الشوف وعاليه، هما القياس، سواء بدمجهما أو إبقاء إحداهما منفصلة عن الاخرى.
أما الحصة الجديدة فشبه محسومة، تحافظ مقدار ما تستطيع على حجم الادنى بضمان التحالفات:
ــ في الشوف المقعدان الدرزيان + المقعد الكاثوليكي + مقعد سنّي مع احتمال التفاوض على الابقاء على مقعد ماروني من ثلاثة.
ــ في عاليه: مقعد درزي + مقعد ماروني، متخلياً عن المقعدين الماروني الثاني والارثوذكسي.
ــ في بعبدا: يطالب بالمقعد الدرزي ثمن مقايضة عاليه.
ناهيك بالمقاعد الثلاثة الموزعة على بيروت والبقاع الغربي ــ راشيا وحاصبيا ــ مرجعيون.
ليست حصة مثالية لأنها الاقل مما اعتاده، لكنها بالتأكيد الاكثر بكثير مما كان يحوزه كمال جنبلاط ــ هو الزعيم على امتداد البلاد ــ في الدائرة الوحيدة اليتيمة التي هي الشوف، كان يقاسمه إياها كميل شمعون. لم يُسجّل يوماً في تاريخ جنبلاط الأب أن سيطر وحده منذ انتخابات 1960 على الشوف حتى. راح يلحق بجبهة النضال الوطني نائب الاقليات في الدائرة الثانية من بيروت فريد جبران حتى انتخابات 1972 ونائب صيدا معروف سعد حتى انتخابات 1968. لم يمنع ذلك إسقاطه مرة في مسقطه في انتخابات 1957.