يشكّل فيلم «مخدومين» (2016 ــــ 67 د) المستمرّ عرضه في «متروبوليس أمبير صوفيل»، صفعة مدوية، تجعلنا نستدير بوجهنا وننظر إلى مرآتنا التي تكشف تواطئنا في جريمة العبودية الحديثة التي نمارسها ضد من نحولهم من عمّال إلى خدم. ضدّ من نمنّ عليهم بقليل من حريتهم التي نملكها، أو بقليل من المال الذي نضيفه إلى راتبهم، أو بما تيسّر من لطافتنا وكرم أخلاقنا.
موضوع قديم يدور في رأس المخرج ماهر أبي سمرا (1965)، منذ أولى رحلات عودته الى لبنان بعد عام 2000. كانت هذه الظاهرة قد تفشّت إلى درجة أنّها أضحت تفصيلاً عادياً في حياتنا. هكذا نخفي جريمتنا اليومية، نخفي الخدم من حياتنا، نجعلهم غير مرئيين، نتجنب النظر الى فعلتنا.
في لقاء جمعنا به وبالمنتجة جنان داغر من «أرجوان»، يقول ماهر أبي سمرا لـ «الأخبار»: «الكل متواطئ، حتى من ليس لديه خادمة، متواطئ. حين يستطيع أن يزور صديقه ويجد الوقت ليجالسه، لأن صديقه، لديه من يهتم بالأولاد، ولديه من يخدمه والزائر».
ليس ماهر أول من تناول هذه الظاهرة المنتشرة عالمياً، لكنّها ترتدي طابعاً فريداً في «بلاد الأرز». تعرّي المجتمع الذي أصبح لكل فرد فيه خادمة. في لبنان، يتساوى الجميع في هذه القضية، فقراء وأغنياء، عنصريين ومنفتحين، مثقفين وجهلة... أكثر من عمل فني سبق أن قارب معاناة هؤلاء الذي يتركون خلفهم عائلاتهم ووطنهم وديوناً، ويركبون المجهول، ليجدوا أنفسم بين «المستر» و«المدام» في لبنان.
يقول أبي سمرا: «ربما يخرج المشاهد من الأعمال السابقة التي صوّرت العمّال برضى ذاتي، قائلاً، لا نحن لسنا كذلك، نحن نحسن معاملة الخدم في منازلنا. لكن ما هي المعاملة الحسنة؟ هي نوع آخر من السلطة» ويضيف: «أنا بحثت عمن يدعون المعاملة الحسنة تجاه خدمهم، لأنهم أيضاً داخل هذا النظام المتوحش مهما كانت معاملتهم جيدة. نظام الكفالة معناه امتلاك الشخص». ويتساءل: «ما هي الحاجة الضرورية التي تجعلنا ببساطة نستغلّ الآلاف من البشر؟ وماذا قد يحصل حين يخطئ هذا العامل أو هذه العاملة؟ هل يبقى مكان للمعاملة الحسنة واللطيفة؟ ألا يصبح وجوده في البلد وعمله مهددين؟».
عدسة ماهر المتنقلة في مكتب الوسيط، تظهر لنا كم هو كبير دور مكتب الوسيط الذي يستورد لنا العمال الأجانب. غرفة صغيرة، ترتبط بأجهزة أمن وسفارات ومكاتب وعملاء في الخارج. توقيع صغير أو اتصال واحد، هو إشارة لبدء رحلة العمال من بلادهم بأوراق مزورة أحياناً، وبطرق غير شرعية. إشارة لانتقال ملكية إنسان، ليصبح ملكاً لإنسان آخر. الحديث عن العمال داخل هذا المكتب يشبه الحديث عن سلعة. قد يتمنى بعضنا فعلاً لو أنه يستطيع تصميم البشر الذي يحضرهم من الخارج، وفق أهوائه ومزاجه وظروفه.
يضيف ماهر عوامل عديدة إلى أسباب هذه الظاهرة: «نحن نتهرّب من معارك لا نريد خوضها، فنستحضر ببساطة من يخوضها عنّا»، كهروب الرجل من مسؤولية مساعدة زوجته في الأعمال المنزلية، وعدم مطالبة المرأة بحقوقها في العمل في فترة الأمومة، فتجلب من يجالس أطفالها كي لا تخسر عملها، أو عدم تحمل مسؤولية تجاه الأهل المسنين، فنعوض عن غيابنا عنهم بتوظيف من يهتم بهم. «هكذا دائماً، نجد حلولاً لجميع مشاكلنا، عبر الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك، لا عبر المطالبة بحقوقنا أو عبر تحمّل مسؤولياتنا».

يظهر «مخودمين» كيف
أنّ العولمة حوّلت البشر إلى
مواد خام تأتي بالمال

مصادفة جمعت ماهر أبي سمرا بمدير مكتب تأمين العاملات، زين. لحسن حظ ماهر، قبِل زين بالتصوير في مكتبه، وهو ما لا يحصل عادة في هذا النوع من المكاتب. يبدو زين، وأمال الموظفة في مكتبه، يمارسان عملاً روتينياً، بوظيفة عادية، تقتضي نقل البشر واستيرادهم. يبدوان كأنهما يقومان بواجبهما تجاه الزبون لا أكثر ولا أقل. لا يشعران ولا زبائنهما بوجود الكاميرا وفريق العمل، بسبب العلاقة الوطيدة والوقت الذي استغرقه ماهر وفريقه مع زين. نكتشف بعفوية كم أصبح سهلاً استهلاك البشر في هذا النظام الرأسمالي البشع، كيف ينتقي الناس العمال من خلال صورتهم، لونهم، جنسيتهم وطائفتهم أحياناً.
يقول ماهر: «كنت أستطيع بسهولة إظهار زين كالوحش الكاسر المسؤول عن معاناة هؤلاء العمال. لكن عندها أيضاً قد يرتاح المشاهد، ويقول لنفسه المشكلة في هذا المكتب أو ذاك. المشكلة أننا ننسى أن هذا المكتب يلبي حاجتنا، طلباتنا، يفعل المستحيل لتأمين طلبنا، والبضاعة التي نريدها. نحن لا نسأل كيف ولماذا؟». ويضيف أنّ المستهلك أو الزبون هو من أوجد هذه المكاتب وهؤلاء الأشخاص.
هناك مصالح مالية كبيرة والكثير من المستفيدين. دورة اقتصادية كبيرة، تذكر المنتجة جنان داغر التي شاركت ضمن فريق البحث. توضح أنّ الدول التي يأتي منها هؤلاء العمال مسؤولة أيضاً، فهناك مثلاً في أثيوبيا، شبه تخلّص من جماعات معيّنة، ذات انتماء عرقي أو قبلي مختلف، كأن العملية تصفية لهؤلاء، أو مثلاً في الفيليبين، التي ترفض منذ ثلاث سنوات استقدام عمّالها. وضعت شروطاً تتعلق بتحسين الرواتب لا بتحسين شروط العمّال الإنسانية. وتذكّر أنّ دخل الفيليبين كدولة قد يبلغ 40 % جراء اليد العاملة في الخارج. ويضيف ماهر مثالاً آخر عن بنغلادش التي تضطر لخفض أسعار عمالها والقبول بشروط سيئة لاستقدامهم مقابل منافستها الدول الأخرى في هذا المجال. ويتابع: «كمنطق المنافسة التجارية على أي بضاعة، العولمة حوّلت البشر الى مواد خام تأتي بالمال. هذا حاصل أيضاً في البلاد الصناعية الكبرى التي تنتج ملايين القطع لصالح الشركات العالمية، هناك يتم استعباد الإطفال في سوق العمل».
لا يفرق مخرج «شيوعيون كنا» و«دوار شاتيلا» و«نساء حزب الله» بين الروائي والوثائقي. يقول: «ليس هذا التصنيف الذي أتبعه حين أحضر لتصوير فيلم، ليس هناك فارق بين الاثنين، أنا أبحث عن لغة تعبير بين الصوت والصورة». لكن هل تغيّر السينما في طريقة تفكيرنا أو هل تلمس وجداننا اليوم؟ يجيب: «لا أعتقد أن السينما قد تلعب دوراً في تغيير كبير اليوم. لم أشعر يوماً أنّي أصنع فيلماً كي أغيّر. جلّ ما أريده هو طرح مادة للنقاش. لم أملك يوماً الأجوبة النهائية، أتعمّق في تساؤلات أملكها بعد كل بحث وتفتح الباب أمام بحث جديد ونقاش أوسع». يقول أبي سمرا إنّه لا تكفي التساؤلات التي يطرحها العمل نفسه، بل يطرح أسئلة جديدة. ويضيف أنّ تأثرنا برسالة أو بموضوع ما كبشر، لا يتغيّر، مهما كان نوع هذا العمل أو لغته، ربورتاجاً، أو روائياً أو وثائقياً.
أما مشكلة عدم التأثير أو التأثير وفقاً لما يتم تقديمه للناس اليوم كمّاً ونوعاً، فيعلّق ماهر: «نحن اليوم في فترة زمنية لا مشروع ولا أحلام لدينا. ليس كزمن الستينيات أوالسبعينيات، ليس التردي في السينما فقط، بل أيضاً في الصحافة، والرواية...». لكنه يتفاءل حين يستذكر أنه على الأقل اليوم، أصبح بإمكاننا أن نشاهد الفيلم الوثائقي في الصالات، وعدم الاكتفاء بمشاهدته فقط في المهرجانات. هذا ما تؤكده جنان داغر، قائلةً: «هناك شعور بالمسؤولية نحو إيصال هذه المادة للناس، بسبب ما تحمله من مضمون».

* «مخدومين»: حتى 22 شباط (فبراير) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080