على باب «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني» في دمشق، كان المشهد منسجماً كلياً مع روح المدينة المنهارة اقتصادياً! فكما يصطف سكان دمشق هذه الأيام في طوابير تنتظر الغاز والبنزين والمازوت، تدافع ـ في حالة مشابهة ـ حشد من الشباب السوري الشغوف بالتمثيل. كانوا ينتظرون أن يأخذ كل منهم وقته في تجربة اختبار الاداء ( casting) أمام المخرج السينمائي السوري محمد عبد العزيز، وهو يضع قدمه في قلب الدراما التلفزيونية للمرّة الأولى من خلال مسلسله «ترجمان الأشواق» (عن فيلم كتبه عبد العزيز بنفسه ويعيد بشّار عبّاس كتابته كمسلسل تلفزيوني).
يومها، عمل صاحب «الرابعة بتوقيت الفردوس» بمزاج السلحفاة المعروف عنه، فطال انتظار الهواة! علماً أن مديرة المؤسسة كتبت يومها توضيحاً اعتذرت فيه عن التقصير بسبب ضيق المكان، ثم بررت فتح كاميرا ثانية لاختبار جميع من حضر، بتفوّق الأعداد التي تجمهرت أمام المؤسسة على كل التوقعات.
عموماً، وصل هؤلاء الشباب أمام الكاميرا، وقدموا ما عندهم. وإذا بالنتيجة تتخطى حدود الآمال المنتظرة، إذ يستقطب العمل 54 موهبة شابة نشرت مؤسسة التلفزيون أسماءهم بشكل رسمي على صفحتها على الفايسبوك. الرقم يشي بخصوصية مخرج السينما الشاب، وانتمائه كلياً لجيل يحمل أفكاراً مختلفة، ورغبته بصناعة عمل نخبوي مختلف، لكنه لا يدير ظهره بشكل، أو بآخر لشعبوية التلفزيون، والتنوع الهائل لجمهوره غير المثقّف غالباً. ما سبق خلاصة جملة من الأحاديث المتشعبة مع عبد العزيز عن هذا العمل.
بعد ظهر يوم ماطر، قررنا مفاجأة عبد العزيز في مبنى المؤسسة. في حي «المزّة فيلات»، تسير التحضيرات على قدم وساق. العوائق في العمل مع الجهة الحكومية يمكن اختصارها بالقول: «حدّث ولا حرج». لكن بحسب صاحب «دمشق مع حبي»، فإن تخطيها «ممكن بسبب التعاون مع المديرة التي تتفهم بعقلية إعلامية عمق متطلبات العمل التلفزيوني». الهاتف لا يتوقف عن الرنين، ربما يعكّر صفو صاحب «حرائق»، لكن سينتهي شحنه بعد قليل، ويدخل في غيبوبة طويلة! المستخدم غادر عمله عند انتهاء الدوام الرسمي. سيتصدى مدير الإنتاج بتواضع لصناعة ركوة القهوة. النجمة ميسون أبو أسعد ستقطع الجلسة لوقت طويل من دون إذن أحد. سريعاً سننتبه على صورتها المعلقة إلى جانب نجوم العمل عبّاس النوري، غسان مسعود، فايز قزق، ثناء دبسي، رنا ريشة، علي صطّوف، إذ تلعب أبو أسعد دور راقصة شرقية، لم يسبق أن لعبته سابقاً. هنا سنقف عند قوانين المؤسسة وهي تمنع مثلاً استقدام مدرب رقص شرقي. ومع ذلك تستعين أبو أسعد بمدرب، وتقتطع من أجرها لمصلحة السوية الفنية للدور والعمل. النقطة تحسب جذرياً لها.
من جهة ثانية، فإن شراكة أستاذ «المعهد العالي للفنون المسرحية» والأكاديمي السوري بشّار عبّاس، ومنهجيته، واللغة الصعبة التي يكبتها، مع ذهنية مخرج السينما السوري المؤمن بالتصوّف، الذي لم يكن يعنيه في غالبية أفلامه أن تكون جماهيرية، توحي مبدئياً أنها لن تكون في صالح مسلسل تلفزيوني، كونه يروي بحسب تصريح مخرجه لنا «سيرة مجموعة ثلاثة أصدقاء يساريين، افترقوا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أحدهم تحول إلى التصوف، والثاني بقي وفياً لمبادئه، والثالث هاجر إلى خارج البلاد. وفي ظل الحرب التي تعصف بسوريا، سيعود الأخير من الخارج ليبدأ رحلة بحث عن ابنته المفقودة، ويستعيد خلال رحلته هذه صداقاته القديمة وذكرياته، ويعيد اكتشاف نفسه والبلاد من جديد». إذاً هنا حفنة من اليساريين المثقفين، يتصدون لبطولة الحكاية. وفق منطق الثنائي السوري عباس وعبد العزيز، فكيف ستكون اللغة؟ وهل ستتوافق مع سوية وأداء الفن الترفيهي أولاً؟ يعترف المخرج الشاب بأنه وقع في هذا المطب لكنه تنبّه له باكراً، وبدأ بإعادة صياغة الحوارات، والتخفيف من ثقلها لتكون مستساغة لجيمع شرائح الجمهور.
الوقت لم يعد في صالحك. نقول لعبد العزيز ونحن على بعد أقل من 100 يوم لموسم العرض! يقلق للحظة ثم يضحك، ويجيب ممازحاً: «كيف عندما نبدأ التصوير وتكون حصيلة كل يوم 10 مشاهد لا أكثر؟». ينطلق تصوير «ترجمان الأشواق» خلال الساعات القليلة القادمة، وسيعرض في رمضان، وسيضيف إلى فريقه دفعة جديدة من المواهب الشابة، وبذلك يكون قد حقق ما تدير ظهرها له غالبية الشركات السورية.