القصور والبيوت المتراصة فوق تلال بلدة الطيبة والحقول العامرة بالأرزاق ليست لأهلها. محور الطيبة ــــ رب ثلاثين ــــ القنطرة الذي سقط فوقه عشرات الشهداء لصد الاجتياح الإسرائيلي ليس لأهله. دير سريان والقصير وعلمان التي خلعت بوابة الشريط المحتل في أيار 2000 ليست لأهلها.
هؤلاء، الأهل المتجذرون هنا، لا يملكون الأرض التي حرروها من الأتراك والفرنسيين والإسرائيليين. هكذا تقول سجلات الدوائر العقارية. فبعد 15 عاماً على إطلاق أعمال تحديد وتحرير ملكيات الأراضي في الجنوب المحرر، لم تنجز أعمال المسح إلا في بلدات قليلة. كثيرون لا يزالون عالقين أمام القضاء العقاري، عاجزين عن إثبات ملكيتهم لأراض ورثوها عن أجدادهم، ولدوا فيها وزرعوا حقولها ودُفن أهلهم فيها. تتنوع أسباب التأخير في إنجاز المسح. أبرزها أن من اشترى أرضه ومن باعها له، قبل عقود، لم يسجلا عقود البيع والشراء في الصحائف العقارية، وفقد الشاري السند الذي يثبت انتقال الملكية، إذ كان البعض يدوّن العقد على خرقة بالية، وكثيرون اكتفوا بالمشافهة والذمم، فضلاً عن أن البيوعات ليست محددة بشكل دقيق.

الطيبة عالقة في ذمة آل الأسعد ودير سريان في ذمة الأرجنتينيين!



الطيبة، على سبيل المثال، عالقة في ذمة ورثة آل الأسعد. يوضح رئيس البلدية عباس دياب أن من اشتروا من العائلة، قديماً، بموجب حجج، لم يثبّتوا ملكيتهم في السجل العقاري بسبب ارتفاع الكلفة عليهم آنذاك. وجاء المسح الاختياري الذي أجراه الانتداب الفرنسي بين 1929 و1936 (عرف بمسح دارفور نسبة إلى المساح الفرنسي الذي أشرف عليه)، فأسقط الطيبة على الخرائط العقارية بأربعين عقاراً باسم مالكيها الأصليين، أي آل الأسعد! اليوم، إثبات ملكية بعض العقارات التي انتقلت إلى الأهالي يستلزم موافقة المالكين. وورثة هؤلاء تفرعوا وتباعدوا وزادوا على 400 شخص. وما زاد من صعوبة التسوية، أن عائلة الأسعد لم تجر حصر إرث، فضلاً عن أن أفراداً منهم باعوا العقار الواحد لأكثر من طرف. التضارب لا ينحصر عند هذا الحد. بعض فعاليات البلدة تتهم أحد أبناء العائلة بتزوير ملكيات خلال الاحتلال الإسرائيلي، منها تسجيل جبل العويضة الواقع في مشاعات البلدة ضمن ملكيته الخاصة قبل أن يبيع أجزاءً منه إلى أشخاص آخرين يتخبّطون حالياً لاسترجاع حقوقهم. إلا أن اللافت أن المنازل التي شُيّدت فوق هذه الأراضي نالت تراخيص من التنظيم المدني، من دون إثبات ملكية الأرض!
في مرج القصب، وهي من نواحي الطيبة أيضاً، رهن أحد أفراد عائلة الأسعد عقاراً مساحته حوالى 2500 دونم لأشخاص من عائلتي ديوان وكبابة اليهوديتين اللتين نشطتا منتصف القرن الماضي في التجارة في صيدا. هؤلاء هاجروا، والعقار بات يعرف بـ»سهم اليهودي». ذاكرة الأهالي توثق بيوعات عدة من أفراد من آل الأسعد إلى اليهود في العديسة. عقد بيع جبل الطيارة المسجل عند كاتب عدل يهودي عام 1945 لا يزال موجوداً، وهو يشير إلى أن الجبل يتبع لقضاء صفد في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويؤكد كبار السن في المنطقة أن الأمر نفسه حصل في المطلة والمنارة (قبالة حولا) وفي أراض عدة على طول الحدود مع فلسطين باعها أفراد من آل الأسعد ومالكون آخرون.




من «هالك لمالك»... الى الأرجنتين!

ما هو سبب تملك آل الأسعد وأصهرتهم (كآل السلمان في مركبا وآل السهيل في بني حيان) غالبية قرى المنطقة؟
تشير الأبحاث التاريخية إلى أن الأهالي «كانوا يلزّمون أراضيهم لبكوات آل الأسعد في مقابل أن يدفعوا بدلاً منهم «الوركو» (أو الضرائب) التي كان يفرضها العثمانيون، على أن يترك لهم البيك 40 في المئة من إنتاج المواسم. إلا أن تلزيم جباية الوركو تحول إلى ملكية خاصة عندما اعتمد الطابو لاحقاً. لم يكن تمدّد العائلة المستقرة في الطيبة والمنحدرة من تبنين، في جبل عامل، مستغرباً. لكن ما الذي جعل عائلات من خارج المنطقة تملك بلدات برمتها بحسب مسح دارفور 1929؟ آل سليم من جزين (أقرباء الملياردير كارلوس سليم) تملكوا دير سريان. آل الأصفر (جذورهم فلسطينية) من الأشرفية تملكوا جزءاً من فرون وعلمان والقصير والزقية عام 1925. بعد ثماني سنوات، باعوا نصف ممتلكاتهم لعائلة دوشيه الفرنسية. الأخيرة باعت ما تملك لآل الزغبي من قرنة شهوان عام 1933. لا يجمع الأهالي على سبب واحد. البعض يرده إلى الوركو وآخرون يظنون أن آل الأسعد باعوهم، فيما يعتقد البعض أن الانتداب الفرنسي منح تلك العائلات المسيحية ملكيات، كذلك سجل باسم الأديرة مساحات واسعة في مناطق مسيحية وإسلامية. سبب غير معلوم جعل قرية صغيرة كدير سريان ضمن ممتلكات خوسيه وآلبرتو سليم (ورثاها بالتواتر عن يوسف إسكندر سليم) اللذين مرا في المنطقة مرة واحدة بعد عدوان تموز 2006. تفقّدا أراضيهما من نافذة السيارة، بحسب شهود عيان. أملاكهما تمتد حتى الوادي الفاصل مع عدشيت ــــ القصير. بعضها ظنها الأهالي مشاعات، ليكتشفوا من الصحائف أنها لآل سليم. آل كنعان من دير ميماس يتملكون أيضاً ناحية بين دير سريان والطيبة سمّيت باسم «أرض كنعان».




الأرض تحت القانون




لا يذهب من يرغب في تسوية ملكية أرضه في دير سريان والزقية إلى قرنة شهوان والمهجر للبحث عن ورثة آل الزغبي أو إلى الأرجنتين لتعقّب أثر آل سليم المهاجرين منذ عقود. للعائلتين وكلاء قانونيون يتابعون الملف. وهناك دعاوى مرفوعة من قبل الأهالي للنقض بملكية تلك العائلات، كالشكوى المرفوعة من آل كريكر في علمان وآل سليمان في القصير لتثبيت أنهم «يملكون أراضيهم قبل مسح دارفور بـ300 سنة».
أعمال المسح الإلزامي متوقفة، وإمكانية التسوية وفك أسر الملكيات تضيق مع مرور الزمن بسبب ازدياد عدد الورثة وتوسع انتشار المالكين الأصليين. الكل عالق في أحكام القانون العقاري العثماني الذي لا يزال معتمداً. لماذا لا يعتمد قانون بيع الغبن الذي استفاد منه المالكون الكبار مثل الرئيس رياض الصلح الذي استعاد بموجبه أراضي واسعة في الجنوب، اضطر إلى بيعها في زمن الأتراك والفرنسيين؟. مصدر قضائي مواكب للقضية لفت إلى أن المشكلة في عدم تخصيص محاكم تنظر حصراً في الأمور العقارية. القاضي العقاري يحوّل النزاعات إلى المحاكم المدنية التي تنتظر الملفات أمامها سنوات لتصدر أحكامها النهائية.