كما يقول شعار حملة التسويق الأخيرة لصحيفة «نيويورك تايمز»، فإنّ «الحقيقة تكتسب اليوم أهميّة أكثر من أي وقت مضى». لعل الصراع السياسي المحتدم في الولايات المتحدة بين ليبرالييها وشعبوييها، هو ما أيقظ صحيفة البروباغندا الأعرق في العالم لتقول كلمة حقّ، ولو أريد بها باطل.
لكن واقع الحال يقول إنّ القوالب القديمة من السرد المؤدلج والدعاية السافرة، لم تعد كافية لا لمواجهة الشعوبيين ولا حتى لإقناع رجل أو امرأة الشارع العاديين.
صناعة السينما في أميركا ممثلة بمعقلها الهوليوودي الأثير، لطالما كانت مصنع المنظومة الأميركيّة لإنتاج «الحقيقة»، تنتج للعالم أنماط الخطاب الأميركي الرأسمالي لرواية الأحداث التاريخيّة أو وصف الحاضر أو تصور المستقبل. لكنها لا تزال أسيرة ذلك النظام القديم من السرد المؤدلج الذي أقل ما يقال فيه إنّه لم يعد مقنعاً لأحد. وهي أيضاً متأخرة، حتى عن صحافة بلادها ذاتها، في التعامل مع تحولات الأزمنة.
فيلم «أرقام مخفيّة» الذي رشّح في حفل الأوسكار لجائزة أفضل فيلم، يكاد يكون شهادة صارخة على أزمة العقل الهوليوودي هذه. الفيلم الذي أخرجه تيودور ميلفي، يحكي قصة ثلاث نساء (سود) كان لهن دور استثنائي في إنجاح برنامج الفضاء الأميركي في الستينيات من القرن الماضي. لكن الشريط يقدّم معالجة ساذجة لقضايا «العرق» و«النسوية» في «وكالة الفضاء الأميركية ـ ناسا» المؤسسة الأميركيّة الرّمز، يمكن أن تنتمي فقط لمرحلة الحرب الباردة سواء في الشكل الدرامي أو في المضمون الفلسفي. إطار عرض «الأرقام» أو «النسوة» السود المخفيات عمداً عن الصورة الرسميّة المعتمدة للعاملين في برنامج الفضاء الأميركي (بوصفهم رجالاً من ذوي البشرة البيضاء فحسب) يتم على خلفيّة حرب سباق الفضاء، حيث «مملكة الخير» الأميركيّة يجب أن تنتصر على السوفياتي الشرير في الفضاء أيضاً، لأنّ انتصار الأخير سيكون بمثابة مأساة تامة للجنس البشري، في الوقت الذي كانت فيه النساء الروسيات يحصلن على نصف شهادات الدكتوراه في الكيمياء في بلادهن، بينما تحصل أميركيّة واحدة على شهادة مماثلة واحدة مقابل كل عشرين شهادة دكتوراه يحصل عليها الأميركيون الذّكور، وبينما كان الاتحاد السوفياتي قد أطلق أول رائدة فضاء أنثى في ١٩٦٣، أي قبل تصعيد الناسا الأميركيّة إلى الفضاء في عقد الثمانينيات بعشرين عاماً فقط.

معالجة ساذجة لقضايا «العرق» و«النسوية» في الـ «ناسا»

ولو تركنا تلك الخلفيّة المتهالكة التي تجرى على إيقاعها أحداث الفيلم، فإن التناقض الرئيسي الذي تطرحه القصة عن مسألة التفرقة العنصرية والجندريّة في مؤسسة العمل الأميركيّة والذي يجعل من تجاوز النظم الثقافيّة العنصريّة للمجتمع الأميركي أمراً أصعب بكثير من إرسال «رجال» إلى القمر، يحلّ أساساً في الفيلم من خلال تساقط تلك النظم بحكم الواقع الموضوعي، واشتداد الحاجة إلى تحسين الإنتاجيّة في مواجهة العدو الشرير، لا من خلال النضال الممنهج. وهكذا حتى عندما تغضب إحدى شخصيات الفيلم الثلاث الرئيسة كاثرين جونسون (تلعب دورها الممثلة الحسناء تاراجي هانسن) أمام مديرها الأبيض اللطيف آل هاريسون (يلعب دوره كيفين كوستنر)، فإن مشهد غضبها يبدو خالياً من المضمون، وفرديّاً، لا ينتهي إلى أي شيء مقنع. فالتغيير يأتي فقط عندما لا يعد المدير (الأبيض) معنياً سوى بتحقيق نتائج عمليّة لكسر تفوق الاتحاد السوفياتي في سباق الفضاء.
الفيلم اقتباس عن نص يروي قصة حقيقية كتبتها مارغوت لي شيتيرلي، ابنة أحد أول علماء الناسا السود التي كانت اكتشفت أثناء بحثها في سيرة والدها وثيقة تظهر وجود نشاط مكثّف لمجموعة من النساء السود اللواتي كلفن بإجراء الحسابات الرياضيّة المعقدة ضمن برنامج الفضاء الأميركي ككمبيوترات بشريّة، وذلك قبل ظهور التكنولوجيّات الحديثة. وبحسب القصة، فإنّ عدد هؤلاء ربما تجاوز الألف عبر العقود، إذ كان دورهن أساسياً في ما يبدو في ظل الضغط السياسي الهائل على الناسا لإرسال رجال إلى الفضاء، وكن يعملن على أساس جداول عمل تستمر ٢٤ ساعة في اليوم.
ورغم تركيز الفيلم على ثلاث شخصيات سوداء بالتحديد كاثرين جونسون (منحها الرئيس أوباما قلادة الحريّة) ودوروثي فوجان (تلعب دورها أوكتافيا سبينسر) وماري جاكسون (تلعب دورها جانللي موناي)، فإن وثائق الناسا تظهر أن العنصريّة لم تكن تقتصر على الأميركيين والأميركيات السود، لأن الأغلبيّة العظمى من عقل الناسا في الحسابات الرياضيّة كانت من النساء ذوي البشرة البيضاء واللواتي تم تجاهل مساهمتهن في الإنجازات على نحو مماثل.
سيناريو الفيلم بدا باهتاً أقلّه مقارنة بالقصة المطبوعة، وانعدمت فيه المفاجآت وبدا تتابع الأحداث فيه متوقعاً دائماً. لكن الممثلات الثلاث الرئيسيات تألقن في أداء أدوارهن في إطار ما يسمح به الحال، لا سيما تاراجي هانسن التي تفوقت على نفسها، وقدمت أهم دور لها على الإطلاق منذ مشاركتها في فيلم «الإمبراطوريّة» رغم بعض المشاهد المفتعلة، خصوصاً عندما ترفع نظارتها إلى أعلى أنفها بين الفينة والأخرى أو عندما تظهر راكضة بين الممرات وهي تحمل الملفات على صدرها منتقلة إلى مبنى آخر حيث يسمح للإناث السود باستعمال الحمامات. في الفيلم بعض أغنيات جميلة من فاريل ويليامز ساعدت في تمرير الوقت، لكن غياب النفس الإبداعي عن العمل انتهى به أشبه بأفلام الميزانيات المحدودة التي انتشرت في الستينيات وتستهدف إرضاء كل العائلة دون المساس بالسرديّة الأميركيّة المؤدلجة ذاتها.
بالتأكيد «أرقام مخفيّة» فيلم مسلّ على العموم أضفى عليه أداء بطلاته «السود» الثلاث مزاجاً رائقاً، لكنه يقدّم حلاً تجاريّاً مبستراً وآمناً لمسألة العنصريّة في المجتمع الأميركي باستخدام قوالب مؤدلجة باهتة في منتج بصري بدا أشبه بدعاية أميركيّة - طالت نوعاً ما - من ذلك النوع الذي نشاهده على مواقع التواصل الاجتماعي: «هل تعلم أن عدة نساء (سود) عملن في الناسا؟»، موسيقى، ثم لا شيء آخر.

Hidden figures: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)