يبدو خليل صويلح متصالحاً مع ذاته وكتابته وهو يخبرنا بأنه لم يعد للروائي السوري رفاهية الكتابة من خارج الحرب، فـ «حتى قصة حب لا بد أن ترتطم بحاجز أمني». لا خيارات متعدّدة إذاً، ولا طريق سالكة لإنتاج نص مُحايد أو متردد إزاء اليومي الحاصل، وللإحاطة بجميع المقيمين حوله.
وحتى حين يكتب صاحب «ورّاق الحب» (2002) نصاً شخصياً ليوم العشّاق، لا يتردد في إعلان حقيقة أن «إشعال الموقد بالحطب أكثر نجاعة من رنين كلمات الفالنتاين»، خصوصاً أن المقارنات صارت قائمة اليوم بين «وردة حمراء أم أسطوانة غاز، زجاجة نبيذ أم لتر من المازوت؟». هكذا يبدو الزميل والروائي السوري مُجبراً على عدم تجاهل الحدث اليومي القابض على قلب اللحظة السورية الحاضرة منذ ست سنوات، وتجاوزها لتدوين كتابة يقوم باختراعها من دماغه كأنه لا يقيم على الأرض. في الوقت ذاته، سيكون مُحاصراً بشبهة إنجاز نص يومي يروي حياة تخص كاتبها كما لو أنها شهادة شخصية عن الوضع القائم. وسيتفاقم الأمر في حالة صاحب «جنّة البرابرة» المولع باستخدام ضمير المتكلم في كل رواياته السابقة، «وأغلب القراء يتعاملون مع النص كسيرة ذاتية متجاهلين التخييل والسيرة المشتهاة» وفق ما يقول لنا. لعل هذا ما يجبره على دفع الراوي في نصه الأحدث «اختبار الندم» (نوفل ــ هاشيت أنطوان) على الذهاب، أكثر من مرة، إلى تنبيه رفيقته ــ تمنّت مصاحبته في جولاته في قلب دمشق القديمة كما كان يفعل في واحدة من رواياته ــ التي تعاملت معه بوصفه بطلاً لروايته، لا راوياً فحسب. لقد انتبه إلى أنّها قالت له «أن أرافقك في جولاتك إلى دمشق القديمة»، ولم تقل «أن أرافق الراوي». وما يُضاعف حالة الاشتباك تلك، بين الشخصي والمُتخيّل، هو تضمين صاحب «زهور وسارة وناريمان» (2008) نصه الروائي أسماء حقيقية كان على صلة وثيقة بحياة أصحابها. إذ أن صويلح يؤمن بضرورة ذلك التضمين، باعتبار أن أصحاب تلك الأسماء وقصصهم هي جزء من الحالات المروية في «اختبار الندم» كما أنها ترتبط بحالة «الندم»، المتشابكة بدورها مع قراري الهجرة وعدمه. نجد هنا، كمثال، محمّد وهيبي الذي «لم يهنأ في منفاه الألماني طويلاً.

بشير العاني وقف «يحاجج البرابرة في اتّهامه بالردّة» قبل أن يذبحوه برفقة ابنه
انطفأ قلبه فجأة، كأنّ أوكسجين الغربة الضئيل لم يلائم نحول جسده الذي ابتعد أكثر ممّا ينبغي عن البلاد»، أو من بقي مثل بشير العاني الذي وقف «يحاجج البرابرة في اتّهامه بالردّة» قبل أن يذبحوه برفقة ابنه. تظهر هنا مسألة الخيارات القاسية المرتبطة بقرار الهجرة، التي تؤدي كلها إلى الموت بشكل أو بآخر: أن تكون منفياً وفي غير مكانك الأصلي أو البقاء تحت رحمة صُدفة قد تُنجيك من الموت مرة وثانية لكنها صدقة لا تأتي في كل مرة. من هذا المستوى، يمكن متابعة صويلح مُجبراً على سيره في قلب رهانين: أحدهما الالتزام بكتابة لا تخون نفسها حين تهرب إلى مناطق خارج الواقع اليومي، في حين يبقى الرهان الثاني مرتبطاً بمسألة إنجاز كتابة مُحكمة من دون التخلي عن الانحياز لقيمة أدبية تُحسب لصالحها ولصالح خيال صاحبها وقدرته على تشكيل نص متين يحمل جودته من داخل أرض مُحاطة بالخراب والموت. والحال هذه، سنرى كاتب «دع عنك لومي» (2007) يفتتح «اختبار الندم» بتعريف للندم ذاته بوصفه «اعتذاراً متأخراً عن أفعال كنّا نظنُّ أننا على صواب لحظة ارتكابها، أو عدم تحقيقها لحظة التفكير فيها»، حيث البقاء في حالة تأرجح بين ضفتي خيارات لا يمتلك رفاهية وضع إصبعه على واحد منها. لا يكون الأمر متاحاً بمجانية في أوقات الحروب، كما أن الخيارات نفسها تتعلّق بأحوال المحيطين بصاحب القرار على نحو مباشر. هكذا سنرى الشخصية الرئيسية في «اختبار الندم» وهو يعيش تأرجحه بين عناصر شتى: الرواية التي عليه إكمالها وقد مضى عليها وقت كثير، عمله كمدير لمعهد سينمائي لا يقدر طلابه على حرية إمساك كاميرا والتحرّك في الشارع من دون تصريح أمني، مثلّث الحب والعلاقات التي يخوضها بين ثلاث فتيات، لكل واحدة حكايتها وألمها الشخصي.
سنجد هذا في مناطق أخرى في رحلة السرد. رحلة تبدو فيها الحاجة إلى اختراع حيوات بديلة في قلب ذلك الدمار المُحيط، ضرورية كي تكمل الأيّام مسارها. تبدو وسائل التواصل الاجتماعي هنا أداة مانحة لروادّها فرصة لبناء علاقات ولو على أكياس من كلام لا تُفصح، في أول الأمر، عن هوية أصحابها: «كأن الكتابة الافتراضية تمنحنا جرعة من الشجاعة في الخوض بما لا يمكن أن نقوله مباشرة». وسرعان ما يتطور الوضع بعد امتلاك الثقة بين الجانبين، لعلاقات من لحم ودم. واحدة منها هي العلاقة مع اسمهان التي خط الراوي معها حياة لخمس سنوات وهي على نحو واقعي «تساوي سنوات الجحيم التي لم تنته بعد»، وبسببها لم يعد يعرف تماماً كيف احتمل «تدابير هذه الوليمة المتنقلة من القتل، والمذابح، والمقابر الجماعية، والمجاعات وعنف الأرواح». إنها نعمة «التشاتينغ» إذاً، وقد صار لهذا الكلام المُنتج عبر شبكات التواصل قدرة على إبقاء عشاقه على قيد الحياة وعلى امتداد الليالي التي لا تريد أن تنتهي وصولاً إلى الغايات المُشتهاة ولحظة التلاقي خارج المنطقة الافتراضية: «أريد أن أراك بعيداً عن البشر، من دون شروط» إلى أن تحضر نقطة الإقرار حيث «أنت خطيئة مهما كرّرتها لن أتوب».
خلال كل ذلك، وعبر تضاعف وتيرة العاطفة المؤسسة ضمن خطوط افتراضية أولاً، وفعلية في توقيت لاحق، يلتقط صاحب «بريد عاجل» وقائع يومية تصلح لترميم صورة الرعب الناقصة. وقائع يجعلها صويلح مكتملة وصالحة لرؤية حجم الخراب القائم، ولاستيعاب عملية تحويل دار سينما إلى مقر اعتقال وتعذيب. عملية فعلها أصحابها مُجبرين «بعدما ضاقت الأماكن الأخرى بالمعتقلين»، لكنهم سوف يحجزون لك مقعداً مجانياً «كي تتفرّج على نفسك، وتختبر صوتك من شدّة الألم، ثمّ تنسحب من المشهد لمصلحة معتقل آخر». ستكون نارنج عبد الحميد واحدة من الذين خرجوا ليحكوا، وسيلاقيها الراوي في ورشة السيناريو التي يديرها لتجري ساقية الكلام و«الندم» حتى بلوغ الوصال والمُشتهى. لكن، قبل ذلك، سيفتح ذلك الكلام أبواباً ضخمة على جروح «عاشقة مُغتصبة»، بعدما وشى رفيقها الذي كان يشتغل مخبراً أمنياً و«هاجر إلى ألمانيا لاجئاً سياسيّاً، ثمّ ناشطاً في منظمة لحقوق الإنسان». هكذا صارت نارنج على يقينٍ تامّ بأن لا فرق بين الاثنين، فـ «حسام اغتصبني باسم الحبّ، والمحقّق اغتصبني باسم الكراهية. كلاهما لوّث جسدي بالضغينة». هكذا تتوالى حكايات الألم والندم، بينما لا يجد الراوي طريقاً لتجفيف المنبع الذي تخرج منه تلك القصص حول شخوص تتقاطع حياته معها. تستمر الحكايات في تحقيقها لاختبارات ندم متتالية، ولا يمكن لشيء أن ينجح في «تقشير طبقات الوجع المتراكمة في روحها وجسدها وذاكرتها».