الجيش الفرنسي يدكّ فيينا بالمدافع. بيتهوفن، شبه الأصَمّ، يختبئ في القبو عند أخيه. يغطي رأسه بوسادات ليحمي أذنيه المريضتَين الشديدتَي الحساسية على الأصوات القوية ويحتقن حقداً على نابليون والفرنسيين. نحن في عام 1809. هذه الظروف الحربية والمرَضية (الجسدية والنفسية) القاسية فرضت على المؤلف الألماني الكبير تعليق العمل على آخر تحفه للبيانو والأوركسترا. إنه الكونشرتو الخامس الذي يحمل تسمية «الإمبراطور».
والمقصود ليس نابليون قطعاً كما يعتقد البعض بسبب إعجابٍ سابق بالطاغية الفرنسي الذي أهداه بيتهوفن سمفونيته الثالثة (1803) قبل أن يمحو الإهداء بيده (1804) مسبباً تلفاً في الصفحة الأولى من مدوّنة العمل لشدّة غضبه وخيبته من الرجل الذي بدا له في البداية ثائراً سيخلّص أوروبا من الطغيان. الذي أهداه بيتهوفن العمل هو الأرشيدوق رودولف، صديقه وراعيه مادياً، إذ كان بدوره موسيقياً ويعشق الموسيقى. وتسمية «الإمبراطور» لا علاقة لبيتهوفن بها أصلاً، بل أطلقها أحد المؤلفين الألمان باعتبار أن العمل بحد ذاته يتربّع على إمبراطورية (ريبرتوار) الباء الألماني الثاني (بعد باخ).
بعدما هدأت المعركة، تابع المؤلف عمله على هذا الكونشرتو وأنهاه عام 1809، فأتى متأثراً بالأحداث وأصوات المعركة والعسكر والغضب العارم ضد الاحتلال الفرنسي الذي مارسه بيتهوفن بالفعل وليس بالتعبير الفنّي فحسب. إذ يقال إن الرجل كان يتهجّم على ضباط الاحتلال مباشرةً عندما يلتقيهم في الشارع ويطلق التهديدات بوجههم!
هناك ضرورة دائمة لذكر (أو التذكير بـ) هذه المعلومات التاريخية قبل الشروع في الاستماع إلى الكونشرتو الخامس والأخير لبيتهوفن. والمناسبة اليوم هي إدراجه على برنامج الأمسية التي تقدّمها «الأوركسترا الوطنية الفلهارمونية» الليلة في «كنيسة القديس يوسف» (مونو/الأشرفية). قبل سنوات (أكثر من عشر سنوات على الأقل)، سمعنا «الإمبراطور» من عازف البيانو اللبناني وليد مسلِّم الذي يتولى حالياً رئاسة الكونسرفتوار الوطني بالإنابة. في الواقع، لم يأتِ أداؤه مقنعاً آنذاك، بخلاف ما نتمنّاه لقيادته العمل ذاته هذا المساء، حيث تتولّى العزف على البيانو الفرنسية ماري فرمولان (Marie Vermeulin) صاحبة الريبرتوار المسجّل المتواضع (أعمال للفرنسيَّين، الانطباعي دوبوسي والمجدِّد مِسيان) والسيط الحسن في بلدها.
على البرنامج عملٌ ثانٍ لبيتهوفن أيضاً هو السمفونية الأولى التي ختم فيها مؤلفها القرن الثامن عشر معلناً قيام حقبة جديدة هي الرومنطيقية، فحملت بطبيعة الحال تأثيرات هايدن وموزار. إنها سمفونية مغمورة نسبياً لبيتهوفن، على رغم من جمالها وصعوبتها، إذ يعدّ مطلعها امتحاناً دقيقاً للأوركسترا وقائدها بفعل مساحات الصمت (بقيمة زمن ونصف الزمن) في نهاية أول موزورتَين من الحركة الأولى.
————————————————————————
أعمال لبيتهوفن مع «الأوركسترا الوطنية الفلهارمونية» بقيادة وليد مسلِّم (وماري فرمولان على البيانو). الثامنة والنصف من مساء اليوم في «كنيسة القدّيس يوسف» (مونو/الأشرفية). الدعوة عامة.