لدينا أكثر من سبب للاحتفال بـ «المهرجان اللبناني للكتاب»، أو معرض كتاب إنطلياس كما يسمّيه المحبون والرواد تجاوزاً. فالحدث يكتسي أهميّة وطنيّة على المستوى الفكري والثقافي، بسبب فكرته التأسيسيّة الضاربة جذورها عميقاً في التربة المحليّة لبيئة ثقافيّة - اجتماعيّة هي قلب لبنان الحضارة والتنوير… بقدر ما تمتدّ فروع تلك الفكرة لتظلل كل لبنان.
«كل لبنان» بالمعنى السياسي والجهوي للكلمة، وليس بمعنى التوازن الطائفي الذي لم يشغل في أي يوم من الأيّام بال المنظمين في «الحركة الثقافيّة ـــ إنطلياس»، كون مشروعهم ـــ الطالع من قلب من دير مار إلياس العريق ـــ وطنياً وعلمانياً، عربيَّ الاهتمامات والتطلّعات. وهذا الكلام ليس شعاراً رنّاناً بين شعارات جُبلت بها ثقافة «التكاذب المشترك» التي تنخر الخطاب الرسمي في لبنان، بل يجسّد خياراً أخلاقياً وسلوكاً وممارسة. كيف ننسى أن إنجازات هذه الجمعيّة المميّزة، بنية وتكويناً، تعود إلى سنوات الحرب الأهليّة الصعبة؟ حينذاك، تمرّدت «إنطلياس» على أحكام «الغيتو»، لتشرّع معرضها ونشاطاتها على مختلف التيارات والأسماء والاتجاهات والتجارب. ليس مفاجئاً، والحالة تلك، أن نقع بين الأسماء المكرّمة هذا العام على شخصيّات من سوريا والعراق. فهذان البلدان الجريحان جارتهما إنطلياس، و«عاميّتها» القديمة المتجددة حصن لعروبة أخرى، أصيلة، هي عروبة النهضة والانفتاح والتعددية والتنوير.
نحتفل بـ «إنطلياس» لأنّ مهرجانها، عيد حقيقي للكتاب، وتكريم فعليّ للثقافة، في زمن الأميّات الزاحفة على بلدنا ومنطقتنا. يشكّل هذا المعرض، موعداً حقيقيّاً مع شتّى حقول المعرفة والفكر والابداع، دونما رقابة أيديولوجيّة أو تمييز فئوي. مهرجان الكتاب فعلاً عاميّة مفتوحة على كل الأصوات والآراء والمواقف والحساسيّات والاتجاهات. من دون وصاية ولا هيمنة. وهذا، بحدّ ذاته، ليس تفصيلاً بسيطاً، في الأزمنة القاتمة، وعلينا أن نعي قيمته، ونطالب بحمايته وترسيخه وتأمين ديمومته. و«مهرجان الكتاب»، بهذا المعنى، قلعة من قلاع مقاومة الانحطاط، والدفاع عن القراءة والتفكير، وثقافة الجدل والحوار، والوعي النقدي للتاريخ من منظور الراهن، والرهان على التقدّم، والاحتفاء بالآخر جزءاً لا يتجزّأ من ذاتنا المتعددة…
ابتداء من اليوم، في دير مار إلياس إنطلياس، سيتوقّف الجمهور طويلاً عند أجنحة الكتب التي تختصر حصاد حركة النشر في 2016 والفصل الأوّل من العام الحالي. وسيبحر في برنامج واسع ومنوّع ومتماد، مشاركاً في لقاءات وندوات ومواعيد ثمينة، وملتقياً عدداً مهمّاً من الكتّاب الذين يوقّعون أحدث مؤلّفاتهم. إن معرض إنطلياس الذي تحمل دورته الحاليّة إسم المعلّم منير أبو دبس ساحر المسرح اللبناني وأحد مؤسّسَيْه، يضاف إلى مبادرات وطنيّة أخرى مثل «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب». فهو لا يتضارب معه، أو يستنسخه، بل يأتي ليكمّله بأشكال وقوالب أخرى. إنّ كسر احتكار المركز البيروتي، شرط من شروط ازدهار الحركة الثقافيّة في لبنان، أي حجم الاقبال الشعبي عليها والتفاعل الوطني معها. وإذا شئنا أن تبقى الثقافة في صلب مكوّنات الهويّة الوطنيّة، فلا بدّ من خلق علاقات ديناميّة، علاقات تكامل وتواشج، بين مختلف الحركات والمبادرات الثقافيّة في لبنان، وأن نفتح المناطق بعضها على البعض الآخر، ونُسقط الافكار المسبقة والعصبيات، ونمتّن اللحمة بين المواطنين، ونعيد الجمهور إلى الثقافة التي انفض عنها لأسباب كثيرة، تربوية واجتماعية واعلامية. وكل ذلك هو ما تفعله «الحركة الثقافيّة ـــ إنطلياس» بنجاح. تحيّة إذاً إلى عصام خليفة، وأنطوان سيف، وجورج اسطفان، وكل زملائهم في الهيئة الادارية بدءاً بأمينها العام الحالي جورج أبي صالح. تحيّة إلى كل الذين أسهموا على امتداد عقود، في انجاح هذه التجربة الفريدة، التي جعلت من إنطلياس عاصمة للثقافة والتنوير.