«هو فرح الحياة! هذه رسالتي للناس»، هكذا تلخص التشكيلية ريما أميوني (1954) معرضها «الجنة المزهرة» الذي تحتضنه «غاليري أجيال». تمتد الطبيعة عبر لوحاتها إلى داخل الغاليري ذات الطابقين، فيزهر المكان بلوحات مشرقة، فرحة، زاهية، باعثاً على تفاؤلٍ وأملٍ وحبٍّ للنور والضوء واللون والريشة الخصبة الكريمة بالمواد اللونية.
يتأثر الرائي بكارما الطبيعة الإيجابية بديهياً. يفرح، يبتسم، ويدخل دون حواجز إلى عالم الطبيعة والأزهار، ليروي عطشاً للجمال، ربما أصبح هو الغالب في ظل الظروف البيئية في لبنان. معرض أميوني، علاج للنفوس الباحثة عن الغبطة، التواقة إلى البهجة، إلى السلام الداخلي الناتج من العلاقة المتوازنة مع الطبيعة الأم. وهو في آن واحد أقرب لاحتفالية باللون، قوامها التشكيل اللوني المتين، والتأليف البصري المتوازن، وغنى التقميشة والخامات وضربات الريشة الزيتية الدسمة.
لكن كيف لكل هذا الصدق أن يصلنا؟ ماذا تفعل أميوني لتكون جسراً في كارما الطبيعة إلينا؟ ببساطة وعفوية، تسرد لـ«الأخبار»: «أحمل لوحاتي البيضاء، والفحم، والباستيل والكارتون، وأذهب إلى حديقة رفيقتي أو أي متنزّه حيث المنظر الطبيعي مدهش. ثم أرسم ما أراه بالفحم على اللوحة، وأترك لعينيّ أن تتشبّعا من اللون، وأعود إلى البيت. اللون يبقى في عيوني! وفي البيت أبدأ التلوين، أضع الألوان كما انطبعت في عيني».
تعتبر أميوني من الرعيل الذي لا يقبل المساومة أو طرح بديلٍ من صدق الريشة والرسم: «في لوحاتي، لا أستعمل الكاميرا أبداً! أرسم الجمال والمناظر الطبيعية كما أراها من الشباك، أو الجنينة، والحديقة». هي لا تحتاج إلى المزيد، فالمخزون البصري بعد اللقاء بالطبيعة كثير، كثير إلى حدّ الفيض. تخبرنا عن زيارتها بلدة بكرزاي بالقرب من بعقلين الشوفية: «زرتها 10 أيام فقط، أخذت معي ألواني الباستيل. هناك رسمت عشر لوحات». لوحات حطّت رحالها في المعرض، حيث تجد نفسك محاطاً بكل أنواع الزهور التي رسمتها أميوني. تلتفت إلى اليسار، فترى منظراً من الشباك المشرف على الحديقة. هنا حديقة بكرزاي وزهر اللافندر، وجبال بكرزاي بخضرتها المتنوعة، وهناك بساتين آل ضومط ذات التأليف الشائك المتين. بساتين كلما قرُبت، ازدادت خضرة بضربات ريشة واثقة، ثم استحالت حمراء دسمة مشعة، ثم ذات لون أصفر هندي، فأزرق، ثم أزرق متنوع، فسماء نراها عبر أغصان الشجر والشجيرات. ولا تنسى ريما مفتاحها إلى جوهر الطبيعة: إمضاء تختاره بلون زاهٍ من ألوان الزهور أو مكونات لوحاتها.

تراوح الأعمال بين الوحشية والانطباعية، والتعبيرية
تستمر الرحلة في جنائن أميوني: هنا صنوبرات ثلاث، وإلى اليمين حديقة سنا (صديقة الفنانة)... كلها صاغتها بريشة زيتية دسمة، شهية، كريمة في المواد، حيث لا يمكن حصر مروحة الألوان، وهل يمكن حدّ الطبيعة بلون؟ لوحتان (متران بمتر) مثلاً لزهر «الجيرانيوم» بتنويعات على مقام الأزرق والأخضر، ثم الأحمر، واسم ريما يذيّل اللوحة بالاحمر ذاته، متماهية مع الطبيعة إلى حدّ الالتصاق.
المتنزّه في هذه «الجنة المزهرة»، سيستحضر حتماً من ذاكرته البصرية المعلم الكبير ماتيس، الذي تحبه أميوني، لكن تأثرها الاساسي كما تقول «هو بالفنان البريطاني/الأميركي غراهام نيكسون (1946)، والتأثر واضح في الجوهر، هو القائل إنّ «التحدي هو بنقل الناس إلى النظر إلى صورة رأوها مراراً من قبل، وجعلهم يتيقنون أنهم لم يروها قطعاً بهذه الطريقة».
أليس هذا عملياً جوهر لوحات أميوني؟ بين الوحشية والانطباعية، والتعبيرية، ينقلنا المعرض إلى الطبيعة وينقل الطبيعة إلينا، إلى تفاصيل ربما نصادفها في كل الحدائق القريبة منا. لكن هل رأيناها «بهذه الطريقة من قبل»؟ كما أنّه ينقلنا إلى عالم اللوحة النقية، الخالية من أي تأثير، عدا كارما الجمال والطبيعة. وظيفة الفن الأولى عبر التاريخ، حيث الجمالية/ الاستيتيقا هي المحرك الاساسي الدينامي لبنيان العمل التشكيلي.
معرضٌ يختاره صالح بركات صاحب الغاليري (وغاليري صالح بركات)، نافذة استيتيقية خالصة، بين مجموعة معارض غالباً ما تكون ملتزمة، هادفة، تحمل رسالة سياسية أو تنطلق من واقع بأزماته وأسئلته. يقول بركات لـ«الأخبار»: «صحيح، غالباً ما أتعامل مع فنانين ذوي التزام سياسي واضح. وغالباً ما يعبّرون عن قضايا ذات علاقة بما يحدث في المجتمع اليوم. لكن في الوقت نفسه، أحرص على التنويع، لأنني أعتقد أن الفنان الذي يعمل خارج إطار الازمات المرحلية، لا يقل أهمية. أقدم دوماً معرضاً كهذا، كي أذكّر أن هناك جذراً مهماً هو البحث اللوني، وبحث التقميشات والخامات. الإنسان الذي يقدم تجربة إنسانية معينة، ذات علاقة بخصوصيات أو عالم خاص، هو أيضاً في غاية الأهمية، خاصة في زمن رديء، حيث المواضيع التحريضية أكثر أهمية لأنها راهنة». ويضيف: «لا ينبغي أن نبقى غارقين في التعبير الاجتماعي السياسي الذي لا يقل أهمية، لكنّ عملاً فنياً عن الأزهار يسمح بالحلم. كل إنسان له بحثه في الحياة. المهم مدى جديته ومثابرته. وإلى أي مدى يذهب في هذا البحث عميقاً. عندما ننظر الى أعمال ريما، نجد لوحات مدهشة وبحثاً لونياً مهماً». ويتابع: «ريما تعيش معنا، وتقدم رؤية أخرى للبنان. في المقابل، نرى دائماً موضوع الحرائق والنفايات. إلا أن ريما ترى الجانب المشرق، وهذا في حدّ ذاته في غاية الاهمية، خاصة في هذا الزمن الرديء». كل زائر للمعرض يوافق حتماً على ذلك، فلوحات أميوني التي تبثّ التفاؤل والغبطة والسرور والطمأنينة في النفوس، تروي عطش متذوقين ومواطنين لسلام مع الطبيعة المحيطة، فتثمر نفوسهم حيثما ذهبوا، فرحاً ولوناً وأملاً بلبنان مزهر.

* «الجنة المزهرة»: حتى 11 آذار (مارس) ــ «غاليري أجيال» (الحمرا) ــ: 01/345213