منذ بداية الألفيّة، أُدخلت زيمبابوي في خطاب الإعلام العالمي إلى «فئةٍ» خاصّة من الدول، تضمّ كوريا الشمالية وكوبا وغيرهما، أي الدول التي يتمّ الحديث عنها حصراً كرموزٍ لـ«الفشل» وكموضوعٍ سهل للسخرية والإدانة: حاكمٌ مجنون يطرد المستوطنين البيض من مزارعهم ليرضي الغرائز الشعبويّة ويستمرّ في الحكم، تقارير «تسلية» ونكات في «بي بي سي» عن التضخّم الفلكي في البلاد والانهيار الاقتصادي وتحوّل العملة الوطنية إلى ورق (لأنّه موضوع مضحك على ما يبدو، وهذه التقارير الغربية تتقصّد ألّا تشرح أن الانهيار المالي سببه العقوبات الغربية والحصار).
والتفسير، الذي يشرح للمشاهد سبب كلّ هذه التشوّهات، جاهزٌ وبسيط: النظام، وتحديداً موغابي والحزب الحاكم. هم يستخدمون الشعارات القومية لتبرير فشلهم، ويحاربون المعارضة الديمقراطية التي تنوي استبدالهم، وهم يخرّبون الاقتصاد بفسادهم وانعدام كفاءتهم.
هذه السرديّة أعلاه هي، بالطبع، تبسيطيّة وناقصة، تمثّل الخط السياسي للقوى المدعومة غربياً في زيمبابوي وتخدم أهدافها وأهداف من يرعاها، ولكنها لا تشرح ما يجري في البلد. بطبيعة الحال، لا يمكن نقاش حالة زيمبابوي خارج السياق التاريخي، بدءاً بـ«توزيع» أفضل الأراضي في البلاد، إثر الحرب العالمية الثانية، على مقاتلين قدامى بريطانيين ــ كأنّها غنيمة لهم وتعويضٌ عن خدمتهم ــ وتهجير أكثر من مئة ألف عائلة أفريقية حلّوا مكانها، وصولاً إلى فشل مشروع الدولة الوطنية بعد الاستقلال وتحوّل قيادة حرب التحرير إلى «برجوازية سوداء»، متصالحة مع المستوطنين البيض في زيمبابوي ومع النظام العالمي، وتقود إجماعاً في التسعينيات على إصلاحات هيكلية نيوليبرالية، دفنت المطالب الشعبية والريفيّة التي كانت عماد حرب الاستقلال (الشعب في زيمبابوي حارب البريطانيين لأجل هدفين واضحين: الاستقلال السياسي والأرض. فحصل على استقلالٍ ناقص تقوده حكومة «برجوازية سوداء»، فاسدة وخاضعة لـ«الاستعمار الجديد»، ولم يحصل على الأرض). مع فشل الاصلاحات النيوليبرالية في أواخر التسعينيات، وتصاعد الأزمة والاحتجاج، حصل انشقاقٌ بين «البرجوازية السوداء» الحاكمة، التي مثّلها حزب «زونا» وموغابي، والمستوطنين البيض؛ فقرّر موغابي دعم العناصر الريفيين الثائرين في المجتمع والتحالف معهم في إطار مشروع إصلاحٍ زراعي جذريّ. قاد «الإصلاح الزراعي» المقاتلون القدامى في حرب الاستقلال، وخلفهم مئات آلاف المزارعين الذين لا يملكون أرضاً، وتمّ طرد المستوطنين البيض من أربعة آلاف مزرعة وإحلال أكثر من مئة ألف عائلة سوداء في مكانها. هنا بدأت المواجهة بين زيمبابوي والعالم، وانفجر الصراع ــ بشكلٍ موازٍ ــ على الساحة السياسية في الداخل.

قصّة «يساريْن»

في دراسة من عام 2007 للباحثين سام مويو (الذي توفّي في حادث سيارة عام 2015) والبرازيلي باريس ييروس، يقول الكاتبان المتخصصان في شؤون أفريقيا وزيمبابوي إنّ الأزمة قد فجّرت تناقضاً ــ كان يتكوّن منذ الثمانينيات، ولكن الحرب أظهرته ــ بين «يساريْن» مختلفين في زيمبابوي: يسارٌ يسمّيه الباحثان «قوميّ» (أو «وطني»)، و«يسارٌ دوليّ»، وقفا على طرفيّ النقيض من مسألة زيمبابوي. ككلّ حركة سياسية نشأت في العقود الأخيرة، التيّاران هما ــ بالمعنى الأعمّ ــ نتاجان أو «استجابتان» مختلفتان لفشل المشروع المناهض للهيمنة الغربية منذ السبعينيات على مستوى العالم، وصمود المنظومة الامبريالية في وجه حربين عالميتين وحربٍ باردة وحركة الاستقلال في العالم الثالث، واستمرارها مقابل سقوط أغلب المشاريع الاستقلالية والتحرريّة، أو تحوّلها الى الاندماج كتابعٍ في النظام العالمي. يجب أن نفهم هنا أنّ هذه التطوّرات والانقسامات ليست خاصّةً بزيمبابوي أو أفريقيا، بل هي ترادف ما جرى في بلادنا؛ والفئات السياسية التي نناقشها في زيمبابوي لها دائماً مقابلٌ واضح في السياق العربي. «اليسار الدولي» في حالة زيمبابوي ليس إلّا نسخةً عمّا سمّي أحياناً «اليسار الديمقراطي» عربيّاً. والسؤال هنا ليس «يسارياً» بالتخصيص. لو أنّك أمعنت النظر، فستجد أن الانشقاق الذي نناقشه في حالة يسار زيمبابوي هو فالقٌ يمرّ في كلّ التيارات العربية اليوم: هناك «إسلامي دولي» مقابل «إسلامي وطني»، و«عروبيّ دوليّ» مقابل «عروبي وطني»، و«ليبرالي دوليّ» الخ... في بلادنا، كما في زيمبابوي، هذا الاختلاف يعكس فارقاً طبقياً وأيديولوجياً واجتماعيّاً مركزياً في المسرح السياسي العربي، وفي كل ساحة في عصر الهيمنة.
بالنسبة إلى مويو وييروس، فإنّ «اليسار الدولي» في زيمبابوي يعرّف كيسارٍ مدينيّ الطابع، لا يرمي إلى تجييش الفئات الريفية والدنيا، ولا يتوجّه اليها أساساً. مطالبه السياسية ديمقراطية ومؤسسية، وخلفيتها الأخلاقية الوحيدة هي فكرة «حقوق الانسان». يروّج لنفسه بين الحركات المدينيّة ويعمل عبر منظومة الانتخابات ومنظّمات المجتمع المدني التي تعتمد على التمويل الخارجي. يعارض النزعات القوميّة و«السوداء» بشدّة، ولا يتبنّى أفكار الاستقلال الاقتصادي أو التنمية في معزلٍ عن الاقتصاد الدولي، بل يدافع عن الاندماج مراهناً على التحالف بين «العمال في الشمال والجنوب» وبناء حركة التضامن العالمي.
«اليسار القومي»، من جهةٍ أخرى، يطالب بعزل البلد عن المنظومة الاقتصادية الليبرالية كطريقٍ للتنمية، ويراهن على الحركات الريفية والشعبية الجذرية (على شاكلة قدامى المقاتلين في زيمبابوي)، ويعتبر أن القوميّة ــ على حدّ تعبير الباحثَين أعلاه ــ هي شرطٌ أساسيّ للسياسة في العالم الثالث، وإن كان غير كافٍ (من دون أجندة تغيير استقلالية ومتّصلة مع الريف وقضاياه، تصبح النخبة القومية بسهولة نخبةً تابعة أو فاسدة أو «دولية»). التيّاران، يكتب ييروس ومويو، تطوّرا جنباً الى جنب في سنوات الهيمنة النيوليبرالية، خلال التسعينيات، ولكن تناقضاتهما لم تتّضح وتنفجر حتّى حصلت الأزمة وقامت متاريس جديدة، وقف الطرفان فيها في مواقع متقابلة (وهو سيناريو يشبه الى حدّ بعيد ما جرى ضمن «اليسار العربي» بعد اشتعال الحرب في سوريا والفرز الذي حصل وهو، كما في حالة زيمبابوي، لم يكن وليد اللحظة أو بسبب اختلافٍ في تقدير حالةٍ محدّدة، بل نتاج مسارين متباينين وثقافتين مختلفتين كان لا بدّ أن يفترقا لدى أول اختبار).

يسار بلا طبقات

بالنسبة إلى مويو وييروس، الفارق الأوّل، والمركزي، بين هذين التيّارين هو في نظرتهما الى الهيمنة الدولية والامبريالية وسياستها في بلادنا. «اليسار الدولي» يميل إلى التقليل من أهمية التدخل الخارجي ودور العقوبات، ولا يقيم اختلافاً نوعياً بين «الاستبداد» في الداخل والمنظومة الاستعمارية. بل هو يحاول أن يستفيد من هذه السياسات الغربية، ويأمل أن تسبب العقوبات انهياراً اقتصادياً، لكي يصل الى الحكم (بما يماثل تماماً سلوك العرب الذين دعموا غزو الـ«ناتو» لليبيا، وبينهم يساريون «ديمقراطيون» كثر، ويراهنون على الدوام على مواقف غربية معيّنة، أو «يخيب أملهم» حين لا تحصل). بل إنّ أحد الأكاديميين الغربيين الذين ينتمون إلى هذا «اليسار الدولي»، باتريك بوند، خرج بنظرية طريفة عن زيمبابوي وهي أنّه يدعم العقوبات الغربية «من أجل الإصلاح السياسي ولكن ليس لفرض سياسات نيوليبرالية» ــ كأنّك قادرٌ على فصل الاثنين أو أنّك حين تُخضع البلد أخيراً لإرادة لندن وصندوق النّقد، فأنت تفتح الباب لنشوء حركات اجتماعية تقدمية ستحدث إصلاحاً وعدالة.
بمعنى آخر، يقول الباحثان، «اليسار الدولي» يقلّل من أهمية الدور الاستعماري، ويبالغ في أهميّة اليسار الغربي واستقلالية الطبقة العاملة في الغرب عن حكوماتها ورغبتها في دعمنا والتحالف معنا (وأكثر الشعوب الغربية، يذكّر مويو وييروس، متموضعة في تحالفات سياسية مع نخب عنصريّة وقوميّة حاكمة). في الوقت ذاته، يرفض هذا اليسار أيّ نضالٍ على أساس القومية أو العرق، ويعتبر أنّ المسألة العرقيّة ما هي الّا «إلهاء» و«وهم»، وأن الأساس هو الإصلاح الديمقراطي والحقوق المدنية (العرق «وهم» في أفريقيا! حيث تحدّدت حياة الناس وحظوظهم، تاريخياً، بحسب خلفيتهم العرقيّة. إن زرت تلك البلاد اليوم ستكتشف، مثلاً، أنّ عائلات البيض ــ لبنانيون وأوروبيون ــ لو اضطرّوا للذهاب إلى السوق أو الجلوس في السيارة بين السكّان المحليين، فإنّ النظارات السوداء لا تفارقهم، لكي لا تلتقي عيونهم بعيون أهل البلاد. حتّى التواصل بالنّظر في أفريقيا يخضع للتراتبية العنصرية).
ولكنّ الخلل الأبرز لدى هذه الفئة، يقول الباحثان، هو الغياب الكامل للتحليل الطبقي في خطابهم، بما في ذلك تحليل أصولهم الطبقيّة، وارتباطاتهم بالتمويل الأجنبي، وانفصالهم عن الغالبية الريفية (وهو ما نراه في لبنان، بوضوح، في مجتمع «اليسار الدولي»). هذه العناصر تزول أمام سردية انقسام أيديولوجي عن «الحقوق» و«المجتمع المدني» و«الحوكمة». التجاهل الكامل لمفهوم «الطبقة» والمصالح يمتدّ إلى تحليلهم لعدوّهم، الطاقم الحاكم وحزبه، الذي لا يملكون في وجهه الّا تهمة «الفساد»؛ كأنّنا نعيش وسط مقابلاتٍ مثالية بين «استبداد» و«حرية» وبين «نزاهة» و«فساد»، وكلّ هذا الصراع ليست له أصولٌ اجتماعية. هذه النظرة تقيم فصلاً وهمياً بين «الدولة» (النظام، الاستبداد، العدو السياسي) و«الشعب»، كأنّهما قطبان منفصلان (وكأنّ دولة حسني مبارك، مثلاً، ليس خلفها جزء من الشعب وتحالفات طبقية، أو أنّ قرار المواجهة مع السلطة الفلسطينية ورفضها لا يعنيان، في الوقت نفسه، مواجهةً مع جزءٍ من الشعب)، فيتم اختزال أكثر المجتمع السياسي في زيمبابوي في شخص موغابي وحزبه، ويتمّ وضع «الشعب» في الكفّة الأخرى.
غياب البعد الطبقي، في نسخته العربية، هو ما جعل «اليسار الجديد» في بلادنا، الى اليوم، يقتصر في نضاله ضد الأنظمة على الشعارات السطحية ذاتها عن «شعب» مقابل «نظام». وحين خرجت الحركات الطائفية ونظرياتها، وبدأ القتل على الهوية، لم تكن لديهم أي عدّة للخروج بتحليل مقابل يشرح ماهية «الشعب»، وانضوى بعضهم في أحلافٍ مع هذه الحركات الطائفية وقام البعض الآخر (على طريقة المسألة العرقية في زيمبابوي) بتجاهلها ببساطة، أو الخلوص إلى أن الطائفية «وهم». لهذا السبب أيضاً، نجد أن «اليسار الدولي» في بلادنا يتعايش براحة تامّة مع ثقافة الإعلام الخليجي اليوم، الذي يمتهن التحريض الطائفي ويدعم روتينياً حركات تدعو إلى الإبادة الجماعية ويربّي جيلاً على ثقافة الجريمة (بالمعنى السياسي والانساني)، ولكنّه قد يرسل رسالة غاضبة إلى المحرّر إذا صدر مقالٌ ينتهك المبادئ النسوية.
في بداية الألفية، جرّد محاربون قدامى سود ــ قاتلوا في حرب الاستقلال في روديسيا ــ محاربين قدامى من البيض من مزارعهم وطردوهم منها. يكتب جوزف هانلون، وهو باحثٌ في «مدرسة لندن»، أنّ نتيجة «الاصلاح الزراعي» بعد عقدٍ ونصف عقد من التجربة ليست فشلاً ذريعاً كما يقدّمها الإعلام ــ والانهيار المالي سببه الحرب الاقتصادية وليس هبوط الانتاجية في الزراعة. قبل الإصلاح، لم يكن هناك أكثر من 6 آلاف مزارع أبيض في زيمبابوي، وكانت ثلث مزارعهم خاسرة ومفلسة، وثلثها صامدٌ بالكاد بسبب دعم الحكومة البيضاء ومعوناتها، وثلثٌ ناجح ويزرع مساحات واسعة ويصدّر إنتاجه. اليوم، يقول هانلون، تستفيد أكثر من 100 ألف عائلة سوداء من هذه الأرض، ثلثها أصبح ناجحاً وينتج سلعاً تجارية، ثلثٌ مكتفٍ وينتج غذاءه ويستثمر في بناء منزل وأدوات إنتاج، وثلثٌ لم ينجح (هذا مع أنّ أدبيات الاصلاح الزراعي تقول إن المزارع يحتاج إلى جيلٍ كامل للوصول الى المستوى السابق من الانتاج). بغضّ النظر عن حالة زيمبابوي وهمومها، وكلّ دولةٍ قد دخلت سياقها الخاص في عصر النيوليبرالية، فإنّ دروس أفريقيا ليست غريبة عن بلادنا؛ ولعلّنا كنّا سنصير أكثر حكمةً لو أننا فهمناها منذ سنواتٍ وقبل أن يعصف «الربيع».