إن ما تقوم به وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية يأتي في إطار العمل على تشويه السمعة الشخصية لنشطاء المقاطعة كجزء من «التصفية المدنية» لهم. وها هي تبدأ بأبرز مؤسسي الحركة، حيث قامت بالتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية بالادعاء أن عمر البرغوثي يملك مبلغاً كبيراً من المال ويتهرب من دفع الضرائب.
تأتي هذه الحملة المسعورة بعد تهديدات عدة أطلقها وزراء إسرائيليون يمينيون يميلون إلى الفاشية، ولكن هذا الموقف أيضاً يعبر عن هستيريا عامة من حركة المقاطعة التي باتت تشكل «خطراً استراتيجياً» و«وجودياً» استدعى إقامة مؤتمرات عدة لمواجهتها، وتدخّلاً مباشراً من أعلى رأس في السلطة الحاكمة.
وقد كشفت صحيفة «هآرتس» أخيراً عن فعاليات سرية تقوم بها وزارة الشؤون الاستراتيجية تستهدف نشطاء حركة المقاطعة والبدء بإقامة قاعدة بيانات ومعلومات تتعلق بنشاط الحركة والفاعلين/ات بها. كل ذلك يأتي بعد مصادقة الكنيست الإسرائيلي قبل أسبوعين على قانون يحظر دخول الأجانب الذين يدعون إلى مقاطعة إسرائيل والمستوطنات. واللافت للنظر هو السعي الدؤوب لآلة البروباغندا الإسرائيلية من خلال العمل على «عدم ربط العالم بين إسرائيل والأبارثهيد» كما قالت المديرة العامة لوزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية سيما أكونيان - غيل.
ويأتي التحقيق مع عمر البرغوثي لمنعه من السفر، حيث إن من المقرر أن يتوجه إلى الولايات المتحدة للحصول على جائزة غاندي للسلام في حفل سيقام في جامعة ييل (Yale). وهذا بدوره يساهم بشكل كبير في كشف الوجه العنصري القبيح للمؤسسة الحاكمة في إسرائيل، ومخالفاتها المتكررة للقانون الدولي. وما تقرير «الإسكوا» الأخير، الذي صاغه خبيران قانونيان، لا غبار على خبرتهما، إلا دليل قاطع على مدى تغلغل الأيديولوجيا العنصرية في البنية المؤسساتية الإسرائيلية.
وعليه، فإنه يمكن فهم الحملة على عمر في إطار السلسلة الطويلة من التحريضات على الحركة الساعية إلى «القضاء» عليها باستخدام أبشع الوسائل خوفاً من تحقيق أهدافها من حرية وعدالة ومساواة! فما هذه الشعارات إلا النقيض الوجودي لأي كيان عنصري، بالضبط كما كانت ضد نظام الأبارثهيد الجنوب ـ أفريقي.
إن ما تقوم به إسرائيل ضد عمر وباقي النشطاء ما هو إلا دليل على فشلها الذريع في مواجهة تسونامي الـ«بي دي أس». هل تتصور المؤسسة الأمنية الصهيونية أن تهديداتها سترهب نشطاء الحركة؟ أو أن عمر البرغوثي سيصبح منبوذاً لأن دولة الأبارثهيد تقول إنه يتهرب من دفع ضرائب لها؟
ما حركة الـ«بي دي اس» التي يتطوع عمر ضمن صفوفها، مثل غيره من الشباب والشابات، إلّا ذلك الصوت الفلسطيني الجديد الذي لم تعتد إسرائيل سماعه. الصوت المستقل الأصيل الذي يعبّر عن إرادة صلبة وإصرار غير مسبوق على تحقيق الحرية والعدالة والمساواة. فإسرائيل لا تريد أن تجد نفسها في غرفة المفاوضات مع أمثال عمر لأن النتيجة معروفة وواضحة وضوح الشمس، إنهاء النظام الاضطهادي المركب من احتلال، وأبارثهيد، واستعمار استيطاني.
ولكن هذه الهجمة تتوافق أيضاً مع بروز «المثقفين» ما بعد - الأوسلويين. فمن مواقف الشهيد المثقف/ المشتبك باسل الأعرج، إلى المواقف التي لا تنحني لريما خلف، الأمينة العامة للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، إلى عمر البرغوثي، وما يمثله من ريادة والتزام لا يلين بالحقوق الأساسية لأبناء شعبنا في الداخل والشتات، تعلم إسرائيل جيداً أننا قد شارفنا على لحظتنا الجنوب ـ أفريقية، لحظة تتخطى أوسلو ومخلفاتها، وتفتح آفاقاً جديدة لمستقبل ممكن التحقيق. وما صمود هؤلاء المثقفين/ات إلا درس تاريخي يعيد الاعتبار للمثقف/ة الملتزم/ة ودوره/ا في قول الحق في وجه سلطة جائرة، متكبرة، متغطرسة، والالتزام بالحقيقة دفاعاً عن موقف إنساني أخلاقي متقدم. ما ميز النضال الجنوب ـ أفريقي هو بالضبط ما يميز الخط النضالي الذي يتبعه عمر وكل حركة المقاطعة «بي دي أس» وهو أن الأرضية الأخلاقية العليا نقيض الاضطهاد العنصري.

* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ مشارك في جامعة الأقصى ــ غزة