«هل يجب علينا أن ننتظر الصبي حتى تصدمه سيّارة ويفقد بصره ثم يشفى لنجد مبرراً للفرح»، يقول «الأستاذ وائل» (بسام كوسا) في مشهد من مسلسل «الانتظار» (2006 ــ كتابة حسن سامي يوسف ونجيب نصير، وإخراج الليث حجو). ننقل الجملة على الفايسبوك بعد سنين من انتهاء عرض المسلسل، فيأتينا التعليق الأوّل للكاتب والناقد الفلسطيني السوري بشار إبراهيم (23 آب/ أغسطس 1963 ــ 30 آذار/ مارس 2017 ــ الصورة) بكلمة واحدة: «مثلا».
الكلمة ستكون لازمة يقفل بها كل ستاتوس مهما كان حياتياً بلغة سهلة، أو نقدياً عميقاً يصدم من يقرأه برأي مبكّل يسير كمجنزرة لا ترحم عند التماس أمية سينمائية، أو سرقة فنية موصوفة. سيصفعنا رحيل بشّار أمس الخميس ليعيد السؤال نفسه: هل نحتاج أن نفقد كل هؤلاء الأشخاص تباعاً وتستمرّ الحياة «مثلا»؟!.
في مخيّم «خان دنون» (23 كلم جنوب دمشق، بالقرب من مدينة الكسوة)، أصيب إبراهيم بدهشة الفن السابع، عندما سكنه المخيّم وراكم فيه رواسب المشهد اليومي، لمن حوله من الفلسطينيين الذين أسسوا لشتاتهم بالقرب من معالم أثرية سورية شبه مندثرة. بقلب قوي، تعلّق بشّار في السينما، وتعلّم من فلسفة المخيّم. هناك حيث يمكن لأي طفل أن يكبر فجأة وقبل أوانه، ويصبح كل شيء متاح أمامه في لحظة واحدة. وهناك حيث يصير أي أمر متوقعاً، هو أقل من الاحتمالات الواردة. لذا فإنّ سبك لقطة سينمائية، يبدو بديهياً في كل حين. وحتى عندما انتقل الراحل إلى شارع «30» في «مخيّم اليرموك»، كان يعيد صياغة شتاته من مخيّم إلى آخر، يتفوّق على شبيهه، بقربه من دمشق، وشكله الذي أعطاه ميزة جعلته أقرب للأحياء الراقية. لن تغيّره دبي أو غيرها من المدن. سيظلّ يشعر أنه امتداد لجرح شعبه المبعثر، وأنّه ممن كُتبت عليهم لعنة اللجوء والاغتراب، مرّة لأنه فلسطيني، وأخرى لأنّه سوري! لم ينتصر كاتب القصّة، ولا الشاعر داخل بشار لأنه منح منتهى تركيزه واهتمامه للسينما، وأراد أن يكون حالة، ورقماً صعباً في عالم النقد السينمائي العربي. فكان له ما أراد. بعد أن تحوّل إلى اسم مرموق في الصحافة السورية، كتب في غالبية المطبوعات، ومن ثم ترأس تحرير مجلة «الوردة»، وأسس لها مهرجاناً ثقافياً رصيناً، لكن رأس المال كان دائماً يبرع في صناعة الخذلان.
أخيراً، وجد بشّار نفسه مضطراً للملمة أغراضه والسفر إلى الخليج ليتمكّن من العيش بكرامة وسلام. وثّق للسينما الفلسطينية وأرشف للسينما السورية. وإن كانت معرفته ونقاشه عن قرب، هما أهم ما يمكن لمتابع أن يحظى به، إلا أن لمنجزه النقدي والثقافي قيمة لا تقل عن مجالسته. من كتبه: «السينما الفلسطينية في القرن العشرين»، و«ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة... ميشيل خليفي ورشيد مهراوي وإيليا سليمان»، و«فلسطين في السينما العربية»، و«سينما القطاع الخاص في سورية»، و«رؤى ومواقف في السينما السورية»، و«ألوان السينما السورية». وكان يرأس تحرير النشرة الصحافية اليومية التي تصدر أثناء «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، كما سبق له أن أشرف على البرامج والأفلام في «قناة الشروق»، وساهم بتأسيس مجلة «سينماتوغراف» في الإمارات، فيما كان مراسلاً لـ«الحياة» في سوريا. انضم الراحل إلى مكاتب الجريدة اللندنية في دبي قبل حوالى ثلاث سنوات. لم تتوقف طائرته عن ابتلاع المسافات، وهو ينتقل من بلد إلى بلد، ومن مهرجان إلى آخر، كضيف أو عضو لجنة تحكيم، يصوغ في كل سفرة إلى جانب لغته النقدية، لوناً آخر من اللغة عن لقاء الأصدقاء وسهراتهم، لا يجيد صياغتها في هذه المناسبات إلا السوريون.
داهمه المرض بصورة أشبه بتلك التي غزا فيها مواطنه الراحل نضال سيجري. ولأنّ الاسمين حملا رسالة محبة موضوعية، ومنصفة، وواضحة بصوتيهما، فقد فقداه قبل أن يرحلا! صديق الجميع جعل مزاج هذين اليومين بمنتهى الحزن على مواقع التواصل الاجتماعي. نعاه المخرج السوري محمد عبد العزيز بلغة الصورة، ترك له شتلة ورود بنفسجية، كتب عليها إهداءه لروحه، وفي خلفيتها أحياء الشام، ومضى الصورة بكلمة واحدة: «دمشقك». أما زملاؤه من الصحافيين والكتاب والمخرجين، فقد فاضت تعليقاتهم بمشاعر مرهفة ربّما توّجها الشاعر والناشر خالد سليمان الناصري عندما كتب: «اليوم اقتلعوا كتف الطيبة، على من سنتكئ الآن؟اليوم اقتلعوا حنجرة العالم، أين سنمشي وكيف سنمشي؟ وقد مات الدليل».
صُلّي على الراحل اليوم بعد صلاة الجمعة في مسجد «الصحابة» في منطقة حلوان في إمارة الشارقة، ووري في ثرى مقابرها، فيما تقبل عائلته وأصدقاؤه المقمين هناك العزاء غداً وبعد غدٍ في «مركز الثقافة العربي» في الشارقة.