في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي، قضيتُ مع بشار إبراهيم وقتاً أطول ممّا اعتدناه خلال لقاءات مماثلة. رغم حيويته المبشّرة، وتأكيده الواثق أنّه هزم سرطان الحنجرة، إلا أنّ شيئاً ما كان كامناً في النظرات، والصمت، والضحك الذي لا ينقطع. شيء يقول إنّ الأمور لن تعود كالسابق. شيء كان يدفعه إلى التواجد مع أحبّائه الكثر أطول وقت ممكن. لم يعد صوته هناك. «وضع مؤقت. سيرجع الصوت خلال أشهر».
كان يردّد، وهو الذي منعته وثيقة السفر السوريّة التي تمنح لفلسطينيّي الأصل، من تلقّي العلاج في الخارج. كان يتحدّث بلغة الشفاه، وبحّة ما تبقّى من حباله الصوتيّة. يكتب ما يريد قوله على Note الآيفون أو اللابتوب. كيف يختفي صوت صاحب النقاشات المطوّلة والضحكات المجلجلة؟
كتبتُ تحت إدراته في نشرة Screen اليوميّة، التي تصدر عن المهرجان. تبادلنا الهاردات كبروتوكول بديهي. قمنا بمشاوير ليليّة إلى محلّات الطعام «المحروفة»، التي يجيد اصطيادها في دبي. تكلّمنا كثيراً عن الأفلام والأحوال ودمشق. في المساء الأخير، نظر إليّ مبتسماً بحزن نادر الظهور عليه. قال بوضوح لا يتطلّب التركيز المعتاد لقراءة شفاهه: «المهرجان الجاية يمكن ما كون هون». علّقتُ بغضب وحدّة. ادّعى المزاح، وغيّر الموضوع، إلا أنّ هاجس المحذور ظلّ ماثلاً. عندما غابت كتاباته عن الفيسبوك، قلق الجميع. «نقاهة» ردّه المقتضب على الأسئلة، ما ثبّت أنّ العداد يتناقص، رغم النتائج المشجّعة إثر عمليتين جراحيتين كبيرتين وجلسات علاج كيميائي وإشعاعي.
صباح الفاجعة، اتصلتُ بابنه طارق، الذي كان في مخيّم «خان دنون» (مسقط رأس بشار). راح الشاب يواسيني بدلاً من العكس. «أنا من الصبح عم أهديكم كلكم» عبارة تختصر الكثير عن الصديق، والأستاذ، والمرجع، والعرّاب. معرفتي الطويلة ببشار، تمكّنني من الحديث عن نقاط تتعلّق بعمله وشخصه، أو ذكر وصايا خلّفها وراءه.

1 - معنى النقد
فهم بشار إبراهيم النقد على أنّه سلاح فردي في خدمة السينما التي يعشق، والقضايا التي يعتنق. هو الناقد بالمعنى الموسوعي والرؤيوي، المتأثّر بأسماء من عيار قيس الزبيدي وحسين العودات وسمير فريد وعلي أبو شادي وكمال رمزي وعدنان مدانات وغيرهم. الشريك الحقيقي في الصناعة، من خلال نصائحه ومشوراته أثناء كتابة السيناريو، أو مقالاته بعد صدور الفيلم، أو دراساته وكتبه المرجعيّة التي لا تقدّر بثمن. النبيل، المحب، صاحب الموقف الواضح. ليس التابع، أو المستزلم، أو القابل للبيع والشراء. «رشوته» من الشام كانت معروفة: أفلام، وكتب، وكروز حمراء طويلة، وعرق الريّان، أو سجق وبسطرمة من «سيروب» في الصالحيّة، وبيتزا الفصول الأربعة من «سناك الكندي» المجاور لصالة السينما. «إذا جاية بلا أفلام، أوعا تفرجيني خلقتك».

2 - الشغب
«يلا شاغب». أوّل عبارة قالها لي، بعدما تعارفنا في إحدى دورات مهرجان دمشق السينمائي. الشغب بمعنى النشاط، والحيويّة، وتحقيق الإضافة في العمل. «لا تكن عابراً في أيّ مهرجان أو نشاط تغطّيه. اكتب ما يحرّض النقاش، ويحرّك الراكد. لا تركن إلى السائد والكليشيه. كن ذكيّاً في الترويج لما تحب، وفي بدء المعارك والحروب. شاكس، واصنع حراكاً جاداً، محترماً، مفيداً، بعيداً عن الاستعراض الرخيص والصحافة الصفراء».

3 - الدقة والمرجعيّة
«المحتوى العربي عن السينما مليء بالغث والسمين. لا تثق بالمصادر الجاهزة. ابحث وتأكّد بنفسك، لتكتب شيئاً مرجعياً». كان كثير التكرار لهذا التحذير، وكثير القلق حيال دقة التوثيق. لذلك، هو شديد الحرص على دقّة مقالاته ودراساته، مهما تطلّب إتمامها من وقت. هل مدّة الفيلم 90 أم 92 دقيقة؟ ما هو عام الإنتاج؟ فيلموغرافيا الصانع وبطاقة الشريط يجب أن تكون صحيحة ووافية، حتى أصغر فنيّ وعامل. لم يكن يخفي فرحه وفخره، عندما ينجح في معرفة اسم المصوّر المساعد في وثائقي قديم. مثلاً، هل شاهد غسان كنفاني «المخدوعون» (1972) لتوفيق صالح، المأخوذ عن روايته «رجال في الشمس» (1963)، قبل استشهاده يوم 8 تموز/ يوليو من عام إنجاز الشريط؟ الإجابة تطلّبت من بشار إبراهيم دأباً وبحثاً وأسفاراً وجمع شهادات وأدلّة. من الطبيعي أن تنتشر العبارة في عالم النقد: «اسألوا بشار».
حتى اليوم، أحد أسباب تأخري الدائم في تسليم المقالات، هو وقت التأكّد من المعلومات والمصادر والأرقام.

4 – التفاني
في الوقت الذي يهرع فيه الجميع إلى سهرات المهرجانات، اعتاد بشار إبراهيم العمل في غرفته. لا حفلات. لا نوم كثير. لا وقت ضائع. لا شيء على حساب الكتابة والإنجاز. «اكتب كل يوم. شاهد. اقرأ. اجمع. أفرز. أرشف». مصدر «الإلهاء» الوحيد والمحبّب هو العائلة والأصدقاء.
ذلك أنّه كرّس حياته لـ «النضال» من خلال الكتابة، بعد هزيمة الثورة الفلسطينيّة في اتفاق أوسلو. في وقت ما، كان القائد العسكري لإحدى الحركات الفلسطينية في مخيم النيرب بحلب، كما قاتل في أوزو مع الليبيين ضدّ القوات التشادية. بعد أوسلو، صار السلاح قلماً. يؤلّف القصّة القصيرة، ويخطّ الشعر، ويدوّن النقد، ويؤرشف السينما. إنّه تفاني النضال الفردي، بعد فشل النضال الجماعي. اعتاد ذكر ذلك بألم وحسرة.
على لابتوب بشار إبراهيم دراسات وأعمال عدّة، جاهزة أو شبه جاهزة للنشر. على ابنه طارق والأصدقاء واجب السعي لطباعتها ونشرها تباعاً.

5 – الحب
«النقد فعل حب. لذلك، لا أحبّذ الكتابة عن أفلام لا تعجبني، ولا أذكرها». هكذا، احتفى بشار بمنجز كثيرين. دافع عن تيّارات وتجارب. روّج لمكرّسين ومغمورين، وحثّهم على الاستمرار والتطوّر.
هو المحبّة غير المشروطة تسير على قدمين. طفل كبير. دائم السؤال عن الأصدقاء، حتى في أحلك ظروف المرض. مهتمّ لتفاصيلهم، وشؤونهم، وراحتهم، على حساب وقته وجهده. في خلافاته، كان واضحاً، مواجهاً بالحجّة والمعلومة. أغلب المختلفين معه سارعوا إلى نعيه والترحّم عليه.

6 – الكرم والمشورة
كرم حاتمي في تقديم المشورة، وقراءة السيناريوهات، ومراجعة مخطوطات الكتب، ومنح الفرص للنقاد الجدد، من دون انتظار مقابل أو شكر. الأجمل أنّه يفعلها من دون أستذة أو تمنين، أو تأفف. على العكس، بشار يلوم الصديق إذا فضّل عدم استشارته، من باب الخجل أو عدم الأخذ من وقته. منذ بداية شغلي في السيناريو، اعتدتُ الاستنارة بحنكته في كلّ ما كتبت، حتى في المسلسلات التي تتطلّب قراءة ألف صفحة. لم يبخل. لم يهمل. لم يجامل.

7 – السينما المستقلة
مبكّراً، آمن بشار إبراهيم بالسينما المستقلة، كخلاص ومتنفّس للسينمائيين الحالمين. رأى أنّها «سينما خارجة عن إطار المؤسسات الرسمية، والشركات الكبرى، وتعبِّر عن طموحاتها، في أن تكون متمردِّة على كافة القيود، بما فيها قيود السوق والرقابة، متحرِّرة على مستوى اللغة والأفكار، متَّخذة من التكنولوجيا الرقمية وسيطاً يلائمها، على كافة المستويات التقنية، وبخاصة في ظلّ ميزانيتها المتواضعة». أقام «تظاهرة الوردة للسينما العربية المستقلة» عند منتصف عام 2006 في دمشق، يوم كان المصطلح غامضاً وواعداً. اليوم، يبدو «معتقد» بشار حلاً سحرياً للسينما السوريّة، المأخوذة بالاستقطاب والشعارات والبروباغندا.
المنظور والرؤية والحساسية والمهارة أهم من المال والتقنيّات. لذلك، اعتنى بالفيلم الوثائقي بشكل خاص. عندما أردتُ شراء موبايل من دبي، أصرّ على أن أختار واحداً بكاميرا عالية الدقة. «صوّر يا أخي. أنت راجع عالشام. ممكن تعمل فيلم مختلف». أخذت بنصيحة موبايل الكاميرا الخارقة، لكن لم أصوّر «المختلف» حتى اليوم.

8 - #ادعم_السينما_العربية
هو أحد مؤسسي الحملة الشهيرة، لحل أحد أكبر مشاكل السينما العربيّة: التوزيع. على المستوى النقدي، قرّر منذ سنوات أن يركّز في الكتابة على أفلام العرب، وإنجازاتهم، وهمومهم، رغم متابعته الدقيقة للنتاج الدولي. وثيقة السفر حرمته حضور المهرجانات الكبرى كبرلين وكان وفينيسيا، فاقتصر على المهرجانات العربيّة. بعد «الربيع العربي»، لم تعد مصر تمنحه تأشيرة دخول، مثل كثر من مثقفي سوريا وفلسطين.
الأولويّة للسينما الفلسطينية، ثمّ السوريّة. حرفياً، شاهد بشار إبراهيم كلّ ما صنعه الفلسطينيون منذ أوّل كادر، والكثير ممّا صنع عنهم في «إسرائيل» والعالم. صار موسوعة السينما الفلسطينيّة، ومرجعها الأوّل، فتحوّل إلى ما يشبه مؤسسة بمفرده. حلم بإنشاء جمعية لجمع وحفظ الأرشيف السينمائي والذاكرة البصريّة لبلاده، من دون أن يتحقق ذلك. أيضاً، واكب السينما السوريّة بشتى ألوانها ومراحلها ومصادر تمويلها.

9 – فضاءات أخرى
لم يؤطّر نفسه في كادر النقد. حلّق إلى فضاءات القصّة والشعر. بعد المجموعة القصصية «سيف الدخان» (دار الحصاد، دمشق، 1995)، والشعرية «موَّال الجمر» (دار كنعان، دمشق، 2000»، توقف عن نشر الأدب تقريباً، لكنّه لم يفلت القلم. في الفترة الأخيرة، كان ينوي إصدار منتج جديد. رأى أنّ التنويع في الكتابة، يعوّض عن «جفاف» النقد أحياناً بمعلوماته وأرقامه المجرّدة. واحة يلجأ إليها بين الحين والآخر.

10 – محبّ المدن
اتفقتُ مع بشار على استقباله في دمشق خلال ربيع 2017، بعد أن يكون قد أنهى نقاهته، وتأكّد من زوال السرطان تماماً. كان يبتسم حتى أذنيه لدى ذكر «المخطط»، الذي اتفقنا على إبقائه سرّاً حتى تنفيذه. دمشق التي أمضى فيها جلّ عمره، يحفظها، ويحنّ إلى كلّ ما ومن فيها. كما القاهرة التي حرم من زيارتها، ومدن أخرى في القلب والوجدان، مثل قرطاج ووهران والخرطوم. بعد انتقاله إلى العمل في الإمارات، وجد فيها الترحاب، والراحة، والبيئة الآمنة المنتجة، والجغرافيا الجامعة لكلّ أحبائه، خصوصاً بعد تولّي مهامه كمسؤول شؤون الصحافة العربية، وإدارة المحتوى العربي في مهرجان دبي السينمائي.

فارس السينما رحل في يوم الأرض. رجل الفرح والحياة والصداقة الحقة، الذي كان أحد أسباب امتهاني النقد السينمائي، بشار إبراهيم: شكراً على كلّ شيء، وإلى اللقاء.