* أم محمد الهرباوي كانت تؤكد مراراً أنها ترى أحمد، ابنها، الذي اختطف عام 1976 من سيّارة الأجرة التي كانت تستقلّها معه. تراه أمامها، لا في صورته الموضوعة على الكنبة، ولا في الإطار الذي تسنده أزهار اصطناعية على الطاولة في زاوية الغرفة. وليس، حتماً في السلسلة التي تلازم رقبتها.
كانت تراه. تصرّ على ذلك، «متل ما عم شوفك» قالت في فيلم «إليك أينما تكون» (2000) لبرهان علوية. راحت تدلّ المصوّر على الأمكنة التي يجيء منها. يباغتها أحياناً وهي مستلقية. يقبل من مدخل المنزل، حين تكون منهمكة بعمل ما، يأتي أحمد من كل الأمكنة لكنه لم يأت يوماً من صورة.
* أم ماهر قصير، تعيش مع ماهر. تجلسه بجانبها على الكنبة وتلفّ يدها حول رقبته. بمقدورها، إن أرادت، أن تضعه في السرير، أو أن تلزمه بالتحديق فيها وهي تنهي رسمتها. ماهر معها في المنزل كل الوقت، لكنّه بنصف جسد. كبّرت صورته الشمسية إلى حجم الجسم البشري، وأكبر ربّما. وقصّت الخلفية، فظل الرأس والوجه والكتفان. قد تأخذها الحماسة في مرّات كثيرة، فلا تعود تتنبّه إلى أن جسده أبيض من الوراء أو إلى أن شعره لا يطول، بل يبقى على حاله كل الوقت. لكنها مع ذلك، بقيت تبحث عنه بعه اختفائه في معركة كليّة العلوم عام 1982.

ماذا تقول لنا هذه الصور الشخصية، بالأبيض والأسود غالباً، حين تشهرها النسوة بيدين اثنتين، ويجدن لها في الموضع بين ركبهن وصدورهن مكاناً مثالياً لعرضها؟ نخال أحياناً أنها لا تتزحزح من هذا المكان، وأن إطاراتها نحتت على مقاس الركبتين. أنهن يحتفظن بها هنا، لسبب ما، لا علاقة له ربما بتعريف الناس بوجوه مفقوديهن. يضيف هذا الموضع حميمية ما إلى صور المخطوفين، ويزيد من التباس الصورة، ووقعها علينا. فننتظر من الصورة وحدها أن تخبر قصصهم، وقد نقتنع بأن لها القدرة على الإيحاء بالحدث الأقسى في حياتهم، أي حادثة اختطافهم. سيكون من الطموح الزائد الادعاء بأن انتصاف الحياة باد في عيونهم، لأنهم كانوا يرون حقاً ما سيحدث لهم. نتغاضى عن أن مشاعر واستيهامات كهذه لا تطالعنا إلا بعد معرفتنا المسبقة بأن من نراهم هم مخطوفون، وعن أن النوستالجيا تترافق مع الاحتكاك بأي صورة ولو التقطت قبل ثوان. لكن هذه الفجاجة سيوقظها التجوّل في صور موقع «فسحة أمل» (fushatamal.org) الذي يعمل على التوثيق الدقيق لقصص وسير المفقودين والمخطوفين خلال الحرب الأهلية اللبنانية. فالصورة كما يعرضها الموقع داخل إطار مستطيل وطولي، هي مجرّد سقف مسطّح للمحتوى المكتوب بأسلوب سردي في أغلب الأحيان. الصور هنا هي تعريف بهيأة المفقود، ودعوة إلى الدخول وقراءة المحتوى. ترفق الصور بالموقع بسيرتين واحدة وصفية للشخص ولحياته اليومية قبل الخطف، وأخرى تركّز على سياق الاختفاء، جمعها القائمون على الموقع من عائلات المخطوفين، ومن المقرّبين منهم. وهذا ما يجعل من السيرة، باستثناء وقائع حياة المخطوف (الزواج، الأولاد، العمل، السيارة التي كان يقتنيها)، تقوم على انطباع فردي مثقل بمشاعر مركبة تلامس الخيال كالاشتياق. تصبح الصور هنا أشبه بدليل للذين يريدون التعرف إلى قضية المخطوفين والمفقودين من سيرهم، فقط. في الموقع، ترك القائمون إطاراً لصور غير موجودة مرفقة بالاسم. استعاضوا عنها برسم رقمي لهيكل شخص بالأبيض أمام خلفية زرقاء متشابهة، وعممت على كل خانات الأشخاص الذين بلا صورة. وإن يبدو هذا الفقد الآخر كفعل استلاب جديد للمفقود وتجريده من وجهه، إلا أنه فراغ ملح لإزالة الخدر الذي قد تبعثه الصورة، ولإيقاظ الانتظار وشحنه.

* تقيم لجان «أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان»، و«أهالي المعتقلين في السجون السورية»، و«دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين» (سوليد)، و«جمعية حقنا نعرف» مؤتمراً صحافياً لإطلاق «العريضة الوطنية» يعقبه افتتاح معرض stolen lives للفوتوغرافي وسام خوري: 11:30 صباحاً حتى السادسة من مساء الخميس 13 نيسان (أبريل) ــ خيمة أهالي المفقودين والمخفيين قسرياً (مقابل مبنى الاسكوا في بيروت).