في السابق، كان «ليبان جاز» يعتمد قاعدةً في برمجته تتمثّل في الترويج للجاز الأوروبي عموماً، والفرنسي أو الفرنكوفوني خصوصاً. غير أنه كان ينظّم بين الحين والآخر أمسيات تميل نحو موسيقى الشعوب بشكلها المعاصر المطعَّم ببعض عناصر الجاز أو البلوز أو الروك أو غير ذلك.
ثم أطلق المنظمون عام 2008 عنواناً يمكنه احتواء هذه الاستثناءات أطلِق عليه اسم «ليبان وورلد» (نسبةً إلى موسيقى العالم أو موسيقى الشعوب). هذا الإطار/الحلّ تم التخلّي عنه لاحقاً وعُدنا إلى «ليبان جاز»، الذي شهد أمسيات مختلفة جذرياً من حيث النمط. لكن، إذا تابعنا أنشطته في الأشهر الأخيرة، نلاحظ أن ما كان يشكّل بالأمس استثناءً في «ليبان جاز» بات يكرّس نفسه كقاعدة اليوم. والقاعدة ليست موسيقى الشعوب عموماً، بل موسيقى الشعوب الأفريقية تحديداً. بالأمس، دعا المهرجان سعاد ماسي من الجزائر وقبلها فاتوماتا دياوارا من مالي، ومساء الغدٍ أمسية للمغنية المغربية أمّ الغيث بن الصحراوي المعروفة بـ «أُم».
أضف إلى أن بوصلة البرمجة في هذا المهرجان البيروتي كانت ولا تزال، عموماً، فرنسا. أي، ما يشكّل الحدث في فرنسا أو من هاجر لينطلق من فرنسا أو ما تتناوله الصحافة الفرنسية «حالياً» في صفحاتها المخصّصة للإصدارات الحديثة أو المهرجانات المحلية التي تستضيف فنانين قد يرى «ليبان جاز» في تجربتهم ما يناسب سياسته في البرمجة. وهذه هي حال أمّ الغيث بن الصحراوي التي أطلقت أربع أسطوانات بين 2009 و2015، صدف أن اهتم الفرنسيون (صحافةً، جمهوراً ومهرجانات) بالأخيرة منها، فباتت هدفاً محتملاً للمنظمّين.
ولدت أمّ الغيث (الاسم الذي يُطلق على الفتيات اللواتي يولَدْن في يوم ممطر) في المغرب عام 1978 وبدأت الغناء وهي في سنّ المراهقة ضمن جوقة غوسبل (الغناء الديني المسيحي عند الأميركيين الأفارقة) في بلدها. درست الهندسة ومارست الفن التشكيلي قبل أن تعود إلى الموسيقى، بشكل نهائي وجدّي، لتطلق أعمالاً تدرج في خانة الموسيقى الغربية الحديثة من البوب إلى الهيب-هوب والـRnB والموسيقى الإلكترونية. هكذا غنّت بلغتها المحلّية، لكن أيضاً بالإنكليزية التي تخلّت عنها كلياً لصالح الأولى بسبب اقتناعها بعدم صحّة وضع (وتضييع) جهود كبيرة للتعبير بلغة أجنبية لا تتقنها كلغتها الأم. لذا، لا نجد في ألبومها الأخير «زرابي»، وهو الأنجح بين أعمالها، إلا العامية المغربية، حتى في أغنية تراثية كوبية (Veinte anos) تختتم فيها العمل الذي صدر نهاية عام 2015. لناحية الموسيقى أيضاً، أسقطت «أُم» معظم العناصر الغربية الحديثة، وخصوصاً في الألحان وفي جزء من المرافقة الموسيقية. وهنا نشير إلى التركيبة الأساسية التي اعتمدتها في «زرابي» وتضم العازفيَّين المغربيَّين المرموقَين ياسر رامي (عود) وراني كريجا (إيقاعات وخصوصاً البندير والطبلة) بالإضافة إلى الكوبيَّين يلفريس فالدس (ترومبت) وداميان نويفا (كونترباص). من هنا أتت النتيجة عبارة عن مزيج بين الإيقاعات الأفريقية (والشمال أفريقية) واللاتينية الكوبية (سالسا) والقليل من الجاز (بعض السوينغ) والسول (في أسلوب الغناء). والجو الصحراوي الدافئ/ البارد الطاغي على الغناء والألحان والمرافقة الموسيقية، آتٍ من عشق المغنية لواحدة من واحات صحراء المغرب، هي محاميد الغزلان في جنوب شرق البلاد (حيث تنتشر صناعة السجّاد من الملابس العتيقة والتي تسمّى «زرابي»، ومن هنا أتى عنوان العمل) حيث تم تسجيل جزء من الألبوم في استوديو متنقّل.
تلحّن الفنانة المغربية الجميلة وتكتب معظم أغانيها (وهي موهوبة في التلحين، بخلاف ما يشهده هذا المجال في السنوات الأخيرة من صفّ نوتات بلا روح)، وتتناول مواضيع الحب والأمل والحرية والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا والعولمة المقيتة وحتى العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة، بدعوة مبطّنة من الأخيرة! صوتها غاية في الرقّة والحميمية. تؤدي جملاً صعبة بسهولة تامة وهي شفّافة وبسيطة في تعبيرها الصوتي. لكن ثمة نقطة ضعف في أعمالها (وبالأخص الأخير، بما إنه أقرب إلى الجو التقليدي في شمال أفريقيا من غيره) هي غياب الكورس النسائي الذي يشكل أجمل عنصر في بعض الغناء التقليدي المغاربي (أين نساء تطوان لا يزيِّنَّ العمل؟).