كانت الضربة الأميركية على قاعدة ومطار الشعيرات في سوريا الحدث أول من أمس. هذه الضربة وإن أتت متأخرة بحسب قنوات التلفزة الرئيسية الأميركية (CNN, ABC, FOX News وسواها)، فإنها جاءت كمطلبٍ شعبي محلي (كما أكدت ولا تزال تؤكد تلك المحطات) بعد أحداث «خان شيخون». ولو افترضنا بأن ما حدث في خان شيخون كان ضربة كيميائية، فإن الإعلام الأميركي أخذ دور القاضي والجلاد دفعةً واحدة وقرر بأنَّ النظام السوري هو من قام بتلك الضربة، من دون نقاشٍ حول إمكانية أن تكون التنظيمات الإرهابية (كداعش والنصرة) هي صاحبة الأسلحة الكيميايية، وإن ما حدث هو إنفجارها جراء الضربة الجوية.
الأمر ذاته ينسحب على فكرة «تأثيم» النظام السوري أنى تحرّك. صال اعلاميو تلك المحطات التلفزيونية، وأعطوا النظام السوري كل الصفات والألفاظ التي تناسب الفكرة، فتارة كان النظام «مجرماً» وقائده «سفاحاً» وسفاكاً للدماء، وطوراً دكتاتوراً قاتلاً، أو قاتلاً للأطفال... تلك العبارات التي استخدمها ــ ولايزال ــ الإعلام العربي المعادي لسوريا (ومحور المقاومة ضمناً) بدت أشبه بغسل طويلٍ للعقول، وكي محددٍ للوعي.
لم يبدأ الحدث بالتأكيد عند اللحظة الأولى للضربة الأميركية على مطار الشعيرات في سوريا. بل إن القنوات الأميركية استبقت الحدث حين تحدّث الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمرة الأولى بعد «حادثة خان شيخون» بأن «رأيه قد تغير تماماً بالنسبة للنظام السوري». استخدمت «سي. أن. أن» لاحقاً عبارةً من الخطاب عنونت بها تقريرها: «الأسد يخنق الأبرياء». بدا العنوان كأنه الإشارة إلى «اللغة» التي ستستخدم لاحقاً في التعامل مع الحدث ككل. تضمن التقرير مقاطع من خطاب ترامب: «الديكتاتور السوري بشار الأسد أطلق هجوماً مرعباً على أبرياء مستخدماً مواداً محرمةً دولياً». طبعاً ترامب لم ينس أن يلامس الجانب الإنساني من خلال إشارته إلى أنَّ «القتل شمل أطفالاً أبرياء جميلين» (باعتبار أنه لا مشكلة في قتل الأطفال غير الوسيمين مثلاً؟). هنا من المحتّم الإشارة إلى أن الصورة التي يحاول الإعلام الغربي دائماً رسمها حول «الرئيس الأميركي» أنه «حامي للديمقراطية والعدالة»، بالتالي فإنه من المنطقي بعد خطابٍ كهذا، أن يأتي «الحزم والحسم». لذلك كانت الضربة العسكرية أمراً ممهداً له بطريقةٍ منطقية. طبعاً أتى تقرير القناة عينها لاحقاً ليشير إلى أمر ترامب بإطلاق 59 صاروخاً من نوع توما هوك من البوارج الحربية الأميركية على قاعدة (ومطار) الشعيرات العسكري التي أشارت التقارير الأميركية إلى أن الطائرات التي قصفت خان شيخون قد جاءت منها.
بدورها، قالت مارثا راداتز المحللة الرئيسية للشؤون الدولية في قناة ABC الإخبارية بأن الضربة الأميركية هي تغيير حقيقي في موقف الرئيس ترامب الذي لم يكن يريد التدخل في سوريا في البداية، لكن يظهر «أن الضربة الكيميائية» أقنعته بالتدخل. طبعاً، شمل التقرير صوراً من الحدث عينه، مع إدغام مشاهد للأطفال القتلى والذي يشار إلى أنّهم تعرضوا لغاز السارين يحملهم رجالٌ لا يرتدون أي نوع من الحماية (وهو علمياً أمر غير منطقي إذ إن الغازات السامة تنتقل بالهواء واللمس). لم تشر القناة إلى هذا الأمر عبر لسان مذيعها الأبرز جورج ستيفانوبوليس. كذلك لم تستضف خبيراً مختصاً بهذا النوع من الضربات (أو المواد الكيميائية) للتعليق على الفيديو عينه وإنما اكتفت بالحديث عن البعد السياسي للمسألة. بعد ذلك، نقلت القناة خطاب الرئيس الأميركي الذي تحدث فيه عن الضربة بحد ذاتها وأنه «لن يسمح لسوريا بإستخدام أي سلاح كيميائي ضد أحد» وأن «الأمر خالف القوانين والأعراف الدولية التي تتحدث عن الموضوع». بعد انتهاء الخطاب، قامت القناة بانتقاد الرئيس خصوصاً أنه لم يقم بشيء تجاه الأسد في السابق، لتنتقل بعدها إلى مراسلها في البيت الأبيض جوناثان كارل سائلةً حول: «ماذا سيحدث لاحقاً»؟ ليجيب بأن الضربة لن تحدث فارقاً يذكر على الأرض، لكنها على الأقل دمرت المكان التي انطلقت منه الطائرات المحملة بالمواد الكيميائية. ولم تنس القناة نهائياً الإشارة إلى دعوة ترامب رؤساء العالم إلى «التوحد" ضد المجازر التي يقوم بها نظام الأسد».
أما تيم أورايلي صاحب برنامج The O’Reilly Factor الذي يقدّم على قناة «فوكس نيوز»، فقد بدأ تقريره حول «هل ستحدث حربٌ في سوريا» بعد الضربة العسكرية، بالحديث عن سوريا التي يحكمها «طاغٍ يدعى بشار الأسد»، أي أنه ببساطة كان يوجه الخطاب قبل الحديث عن أي نوعٍ من الأحداث. علمياً ومنطقياً حين تبدأ بوصف الشخصية التي تتحدث عنها بصفات معينة، فأنت تخلق نوعاً من الصورة لكيفية تناول الحدث. مرر أورايلي بدايةً خطاب نيكي هايلي السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة (الشهيرة التي قالت يوماً بأنني أنتعل حذاء بكعبٍ عال لأضرب به كل من يتجرأ على مهاجمة الصهاينة) الذي تخطاب به دول العالم المجتمعة في الأمم المتحدة عن «أنه في حال فشلت الدول مجتمعة في الردع، فإننا مضطرون أن نقوم بالأمر على طريقتنا لأجل الضحايا والأبرياء». أورايلي استضاف بعدها الجنرال دايفيد هانت (جنرال متقاعد ومحلل عسكري لدى القناة) الذي أشار إلى أن المعركة ليست سهلة، وأنَّ الأمر ليس «نزهة» خصوصاً أن وجود الجنود الأميركيين (على الأرض وبرياً) هو «بالتنسيق» مع الجيش السوري والقوات الروسية هناك، بالتالي فإننا سنعرض جنودنا للخطر ثم إن الحرب في سوريا –بحسب الجنرال هانت- هي بين ست دول «ولا نريد أن نعرض جنودنا للخطر». طبعاً حاول أورايلي أن «يسخّف» الفكرة ويظهرها بعيدةً عن الواقع، فترك متحدثه كريستوفر هارمر المحلل والخبير القادم من مركز دراسات الحروب الذي قال إنّه لا يوافق الجنرال على ما يقوله وبأن الهجمات الأميركية هذه المرة لن تكون ضد «القاعدة» أو غيرها، بل ضد «قدرات الأسد العسكرية على استعمال الأسلحة الكيميائية». وطبعاً لم ينس هارمر «شتم» الأسد مع تعابير مثل «الجزار» و«المجرم».
«سي. بي. أس» (CBS NEWS) بدورها تناولت جانباً آخر. من خلال مراسلها داخل البتاغون دايفيد مارتن، حددت حجم الصواريخ المطلقة على قاعدة الشعيرات، فتحدثت تقديرياً عن كمية المتفجرات التي حملتها الصواريخ، مشيرة إلى أن كل صاروخ يحمل رأساً حربياً بوزن 1500 باوند من المتفجرات، محددة أنها سقطت كلها (أي الصواريخ 59) خلال أقل من دقيقة (تحديداً 59 ثانية)، لتنتقل بعد ذلك إلى خبيرها «الأمني» الضابط السابق في وكالة الإستخبارات الأميركية مايكل موريل. تحدث الأخير عن الضربة وعلاقة ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعن احتمال وجود تنسيق حول الضربة من عدمه، «إذ في النهاية لم نكن نريد قتل جنود روس في الضربة» حسب قوله. طبعاً في التقارير التالية، لم تشذ القناة عن القاعدة، فتحدث مذيعو فقراتها عن «المشاهد المحزنة للأطفال المقطعي الأوصال والذين قتلوا بوحشية».
الـbbc بدورها تناولت البعد التاريخي للأحداث. تحدثت عن مواقف ترامب المتضاربة، فأشارت إلى أنه في العام 2013 كان معارضاً لأي عمل عسكري ضد سوريا مشيرةً إلى خطابه المعروف وقتها: «أن الرئيس أوباما يريد ضرب سوريا لإخفاء فشله، لا لضرب سوريا» (وخطابات كثيرة أشار إليها التقرير). بعد ذلك أشارت إلى مواقفه التي حافظ عليها في 2016 حين أشار إلى أنه «إذا ما نزعنا الرئيس الأسد، قد ننتهي برئيس أسوأ بكثير من الأسد، لذلك أنا أعارض ضرب سوريا». أتى التقرير بعد ذلك على «الضربات الكيميائية» التي غيّرت مواقف ترامب: «لقد غيّرت الضربات الكيميائية موقفي تماماً من الأسد ونظامه، وسيتلقى رسالة، وسترون ما هي الرسالة». تطرح القناة ذلك بنوعٍ من «الشرح» الوافي، ولكن السؤال "الخبيث" الذي لم تطرحه القناة مباشرةً، وإن لعبت عليه: لماذا غيّر الرجل مواقفه؟ ما هو الدافع؟ طبعا لم تتوقف القناة عن عرض رسائل كثيرةً من مسؤولين أميركيين يؤكدون فيها بأنه «على الأسد الرحيل» وبأن «أوانه قد أزف».