«عندما نُشخّص محاولات لنقل أسلحة متطورة إلى حزب الله، وتكون لدينا المعلومات الإستخبارية ولدينا الإستعداد العملاني، فإننا نعمل لمنع حصول ذلك». التصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تعليقاً على الإعتداء التي نفذته مقاتلات إسرائيلية ضد هدف قريب من مطار «تي فور»، شمال مدينة تدمر السورية، منتصف ليل 17 آذار الماضي. وبحسب إحصائية قدمتها وسائل إعلام عبرية، فإن عدد الهجمات «المنسوبة» إلى إسرائيل على مدى السنوات الأربع الماضية، بدءًا من الغارة الأولى على جمرايا في 31 كانون الثاني 2013 وانتهاءً بغارة تدمر، بلغ 18 هجوماً.
للمرء أن يجري، بناء على هذه الإحصائية، حساباً بسيطاً ليستنتج أن «المعدل السنوي» للإعتداءات الإسرائيلية الرامية إلى منع انتقال «أسلحة متطورة» للمقاومة من سوريا إلى لبنان يراوح عند الرقم أربعة. بطبيعة الحال، من غير المسموح، بالمعنى الوطني والسياسي، الإستناد إلى هذا الرقم (المتدني نسبياً!) للتخفيف من «عدوانية» التوثب الإسرائيلي تجاه الساحة السورية الغارقة في حرب كونية، أو للتدليل على وتيرة «مقبولة» للإعتداءات الإسرائيلية في ضوء تلك الحرب. فالإعتداء هو إعتداء، أياً كان حجمه وظرفه وطبيعته.

الغارات الـ 18 لم تحُلْ دون انتقال أسلحة «متطورة» إلى المقاومة في لبنان


لكن ما يعنينا هنا هو وجه آخر للقضية. فعندما يشرِط نتنياهو نشاطه العدواني على الساحة السورية بتشخيص محاولات لنقل أسلحة متطورة وبوجود جهوزية إستخبارية وعملانية للعمل، يطرح السؤال البديهي نفسه: ماذا عن الحالات التي لم يحصل فيها تشخيص كهذا، أو لم تتوفر فيها المعلومات أو الإستعداد العملاني الكافي؟
حقيقة الأمر، أن الساذج وحده هو من يعتقد أن عدد المرّات التي حاولت فيها المقاومة اللبنانية نقل «أسلحة متطورة» من سوريا إلى لبنان إقتصر في السنين الخمس الماضية على 18 مرة. يكفي، مثلاً، للوقوف على خطأ هذه الفرضية، استرجاع التقارير الإسرائيلية خلال السنوات الخمس التي أعقبت حرب تموز، وهي تقارير قفزت بالترسانة الصاروخية لحزب الله من عشرة آلاف صاروخ، غداة الحرب، إلى حدود مئة ألف، متعددة الأحجام والأمداء والأنواع، عشية الأزمة السورية. ولا يوجد ما يُرجِّح الإفتراض بأن وتيرة «مُعاظمة» الحزب لقدراته بعد هذه الأزمة قد خفتت أو تراجعت، بل إن العكس ــــ لأسباب واضحة تتصل بالتهديدات والفرص التي أنتجتها الأزمة نفسها ــــ هو الصحيح. غاية الأمر، كما يرجُحُ بداهةً، أن الأزمة أوجبت على المقاومة إدخال تعديلاتٍ على تكتيكات نقل الأسلحة، بما يرفع حرب الأدمغة القائمة أصلاً بينها وبين العدو الإسرائيلي إلى «دورٍ» أعلى. وعندما يتعلق الأمر بحرب الأدمغة، يسهل العثور على تواترٍ في المواقف الإسرائيلية التي تقر بأن حزب الله هو ندٌّ تُرفع له القبعة.
الغارات الإسرائيلية الـ 18 لم تحُلْ، إذاً، دون انتقال أسلحة، بما في ذلك «أسلحة متطورة»، إلى المقاومة في لبنان. هذا ما يفرضُهُ منطق الأمور، وهذا، للمفارقة، ما أقرّ به نتنياهو نفسه من على منبر الأمم المتحدة (2/10/2015) إذ أكد نجاح حزب الله في امتلاك ثلاثة أنواع من الوسائل القتالية المتطورة، هي، كما ورد على لسانه: منظومات دفاع جوي من طراز «أس إي 22»، صواريخ «ياخونت» المضادة للسفن، وصواريخ أرض ــــ أرض دقيقة الإصابة.
هل الغاية الإسرائيلية الفعلية من وراء الغارات في سوريا هي، واقعاً، الحؤول دون مراكمة المقاومة لقدراتها النوعية بكميات «حرجة»؟ خصوصاً بعد أن يئست تل أبيب من «ضبط» مراكمة المقاومة لقدراتها غير النوعية، وتحوّل جهدها الحصري أزاءها إلى مجرد العد والإحصاء! هذا احتمالٌ منطقي. لكن، في المقابل، يُفترض بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها أن تكون أول العالمين بأنه «مقابل كل شحنة أسلحة تتم مهاجمتها في سوريا، ينبغي الإفتراض أن هناك عشرات الشحنات التي نجح حزب الله في تهريبها إلى لبنان»، بحسب أحد المعلقين العسكريين الإسرائيليين البارزين. يمكن الإستنتاج، إذاً، أن الجدوى العملية الكلّية من وراء هذه الغارات، قياساً إلى هدفها المُعلن، وهو منع انتقال أسلحة استراتيجية إلى حزب الله، هي جدوى «غير مجدية» في اختبار النتائج النهائية. لكنها، رغم ضآلتها، وهذا قد يكون أهم ما في الموضوع، جدوى صافية؛ أي إنها لا تقترن (أو لم تقترن حتى الآن) بأي كلفة سياسية أو ميدانية تضطر تل أبيب إلى تسديدها في الموازاة.
يعني ذلك، أننا أمام ما يشبه العَراضة العملانية الإسرائيلية، وهي عراضة تستند إلى إنتهازية صرفة وفّرتها الحرب السورية التي قيّدت الدولة السورية وحلفاءَها بأولويات ثقيلة وداهمة تتمثل بمواجهة حرب شلّعت الكيان السوري واستنزفت قواته المسلحة إلى أبعد حدود. وهذه الإنتهازية، وحدها، هي التي تفسر حرص إسرائيل على حصر جغرافيا مقارعتها الوقائية لعمليات نقل الأسلحة الخاصة بالمقاومة ضمن الساحة السورية، من دون أن تتجرأ، حتى الآن، على استنساخها في الساحة اللبنانية.
ليل السابع عشر من آذار الماضي كنا أمام محاولة جدية أولى (الثانية ترتيباً) لإفهام إسرائيل بإمكان أن يكون لاعتداءاتها على الساحة السورية أكلاف سياسية (الإستدعاء الروسي لسفير تل أبيب في موسكو) وميدانية (إطلاق صواريخ أس 200 باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة). سيكون من المثير ترصّد السلوك الإسرائيلي المستقبلي حيال هذا التطور النوعي، فيما لو تبين أن الرد الصاروخي السوري ينبي عن قرار مبدئي بالتصدي للإعتداءات الإسرائيلية، وأنه، تالياً، لن يكون الأخير!