قبل نحو 6 أشهر، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، انطلاق عمليات «قادمون يا نينوى» لإعادة مدينة الموصل ومحافظة نينوى إلى كنف الدولة. إعلانٌ خرج بشقّ الأنفس، محفوفاً بالكثير من التجاذبات السياسية بشأن طبيعة القوات المشاركة في العملية وهويتها. وكان السؤال الأبرز يُطرح بخصوص إمكانية مشاركة قوات «الحشد الشعبي».
رافقت الأيام الأولى لعمليات الموصل الكثير من التحليلات السياسية. ركّز معظمها على تاريخ العملية ومدّتها، غافلةً عن التوقيت الذي تزامن مع تصريحاتٍ عدّة لوزراء دول «التحالف الدولي» تشي بأن «عمليتَي الموصل (العراقية) والرّقة (السورية) هي عملية واحدة». وتقاطعت معلومات، أيضاً، لتفيد بأن «استعادة الموصل ستكون في الميزان العراقي الداخلي أمراً معنوياً، فيما المعركة الإقليمية الأساسية التي ستتبعها هي معركة حدود، ومعركة ضد التقسيم في المنطقة»، خاصة أنّ التوجه الأميركي كان يقضي بضرورة السيطرة على المناطق الواقعة غربي الموصل، ومنع «الحشد» من التوجّه إلى هناك.

تعدّ مدينة سنجار الحدودية
نقطة استراتيجية لجميع
القوى المتحاربة

يومها، تنبّهت قيادة «الحشد» للمخطط الأميركي، وأدركت أنّ السيطرة على مدينة تلعفر (غربي الموصل أيضاً)، تعني قطع الوصل الذي تريده الولايات المتحدة بين العراق وسوريا، الأمر الذي يُسهم في القضاء على «مشروع الرقة ــ الموصل». وهكذا، فرضت قيادة «الحشد» نفسها على الخطط الموضوعة لاستعادة الموصل ومحافظتها، وكان هدفها الأول السيطرة على قاعدة تلعفر الجويّة، لاعتبارات عدّة، أهمها منع القوات الأميركية من إقامة قاعدة عسكرية هناك. نجاح «الحشد» كان موضعيّاً فقط، تمثّل بمنع القوات الأميركية من وصل العراق بسوريا في الشمال الغربي من جهة تلعفر.
حتى يومنا، لا يزال الأخذ والرد في هذه النقطة قائمين: لم يستطع «الحشد» الدخول إلى تلعفر لوجود «فيتو» وضغوط تمارس عليه، ولم يتمكّن الأميركيون وحلفاؤهم من إمساك كامل الحدود العراقية ــ السورية، بعدما سبقهم «الحشد»، قاطعاً أحد خطوط إمداد «داعش» من الموصل إلى الرقة.

عودة إلى المشهد

مع اقتراب القوات العراقية من حسم معركة الموصل (إلى الآن، بقي 12 حيّاً سكنياً فقط بيد مسلحي «داعش»)، طلبت واشنطن من بغداد خفض وتيرة العمليات، ريثما تتضح الصورة لقيادة «التحالف» حول كيفية الدخول إلى مدينة الرقة السورية: «متى، وكيف، ومدّة العملية».
«خرج العبادي عن طاعة واشنطن»، فعمدت الأخيرة إلى توجيه ضربة جويّة على حيّ الموصل الجديدة، أسفر عنها مقتل أكثر من 130 مدنياً: هكذا يُنظر إلى ما حصل من قبل عدة أطراف عراقية وإقليمية.
كانت «رسالة واضحة، تدعو إلى وقف العمليات العسكرية، وإجبار القوات المتقدّمة على أخذ استراحة مقاتل إلى أن تعيد واشنطن وحلفاؤها ترتيب الأوراق في المنطقة، من الرّقة إلى الموصل، مروراً بالمنطقة الحدودية بين سوريا والعراق»، تقول شخصية سياسية.
في هذا الظرف تحديداً، عادت قضية سنجار لتظهر إلى العلن، علماً بأنّ المدينة استُعيدَت من أيدي تنظيم «داعش» في تشرين الثاني 2015، وبأنه في نفس يوم استعادتها، حضر إليها رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، معلناً أنه «لن يُرفع أي علم آخر غير علم إقليم كردستان في سنجار، والسكان العرب الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء الأكراد الإيزيديين، هم إخوتنا». وكان من تداعيات وتبعات استعادة «البشمركة» لسنجار، بدعم واشنطن و«التحالف الدولي»، دعوة البرزاني بعد شهرين، زعماء العالم إلى الاعتراف «بفشل اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الحدود في منطقة الشرق الأوسط»، وحثّهم على التوصل إلى اتفاق جديد، تمهيداً «لفتح الطريق لقيام الدولة الكردية».

لماذا سنجار؟

تعدّ سنجار منطقة استراتيجية لجميع القوى المتحاربة، وهي منطقة حدودية تصل العراق بسوريا. وتعدُّ المدينة مركز قضاء سنجار الواقع في الجانب الغربي لمحافظة نينوى، شمال العراق، وتبعد عن الموصل 80 كلم، وأغلب سكانها من الإيزيديين، وأقلية من التركمان والعرب، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 84 ألف نسمة، بحسب إحصاء عام 2014.
="" title="" class="imagecache-250img" />
نشرت وكالة «الأناضول» شبه الرسمية، أمس، هذه الخريطة التي توضح نظرة أنقرة إلى سنجار | للصورة المكبرة انقر هنا


وتشهد منطقة سنجار أكثر من صراعٍ بين محلي وإقليمي ودولي. فالأوّل، هو الصراع الكردي ــ الكردي؛ والثاني، هو الصراع التركي ــ الكردي؛ أما الثالث، فهو الصراع الأميركي ــ العراقي.
الصراع الأوّل هو صراعٌ قديم (راجع الكادر أدناه)، يدور خاصة بين «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود البرزاني، و«حزب العمّال الكردستاني»، إذ يرفض الأوّل وجود الثاني هناك، بالنظر إلى تهديداته المستمرة «لبنية إقليم كردستان». فيما الصراع الثاني، وهو صراع قديم أيضاً، بين تركيا وحزب «العمّال» نفسه، إذ ترفض أنقرة أن يكرّر مقاتلو «العمّال» تجربة جبل قنديل في منطقة سنجار، وهو أمرٌ عبّرت عنه أنقرة مراراً. وجدير بالذكر، أنه منذ استعادة سنجار من «داعش»، كانت أنقرة تهدد بالتدخل، لأنها كانت تعتبر بأنّ مقاتلي «حزب العمال الكردستاني»، موجودون فيها، وهم في المنظور التركي يمثلون «فصيلاً إرهابياً». أما الصراع الثالث، فهو صراعٌ بين القوات الأميركية وفصائل المقاومة العراقية (تشكّل هذه الفصائل جزءاً كبيراً من قوات «الحشد»)، التي تسعى إلى منع الأميركي من تحقيق ربط كامل بين العراق وسوريا.

رسائل تركية: سندخل!

لعلّ أول من بدأوا الحديث المباشر عن سنجار، هم الأتراك، لكن «حين عاد الحديث عنها، نام الجميع عن الموضوع»، يقول مصدر عراقي، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ التصريحات التركية العلنية، و«رسائل أنقرة للمكوّن الإيزيدي» كانت كفيلة برسم المرحلة المقبلة: «سنجار الهدف التالي».
في العلن، حمل الأسبوع الماضي رسالتين أساسيتين، الأولى من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حين كشف عن «وجود مرحلة ثانية وثالثة من عمليات درع الفرات العسكرية»، مؤكّداً أن «العملية لن تكون محصورة على الصعيد السوري فحسب، بل ستشمل العراق أيضاً». أما الثانية، فكانت إعلاناً واضحاً لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، قال فيه: «إن القوات التركية قد تتدخل قريباً في شمال العراق لتنفيذ عملية عسكرية ضد الإرهابيين»، مضيفاً أن «حزب العمال الكردستاني يريد إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة سنجار، شمال العراق، وتحويلها إلى (جبل) قنديل ثانٍ (أقصى الشمال الشرقي العراقي)... ونحن لن نسمح له بذلك».
أما بعيداً عن الأضواء، وقبل نحو أسبوعين، فقد طلبت إحدى الشخصيات الإيزيدية اجتماعاً بقيادة «الحشد». جرى الاجتماع بعد أيامٍ قليلة، وسمعت قيادة «الحشد» الآتي: «إن الأتراك أرسلوا لنا رسائل عدّة، في الفترة السابقة، ولديهم نيّة بالدخول إلى سنجار بغطاء دولي، وإن تحقّق ذلك فلا من مخبرٍ عنّا... يريدون إبادتنا». كان للرسالة وقعٌ شديد، «فالتركيز على الموصل، لكن ما يُحاك في سنجار أخطر وأمرّ، على المشهد الميداني»، بتعبير ناقل الرواية، الذي يشير أيضاً إلى «مخطط أميركي لتثبيت مراكز لهم بين تلعفر وسنجار والحدود مع سوريا».
يوصّف مصدر المشهد، بالقول: «في سنجار سيرسم مستقبل المنطقة، معركة الموصل، على أهميتها، لن تكون في أحد جوانبها إلا تحضيراً لمعركة سنجار»، مضيفاً: «ستكون المواجهة هناك مباشرة بين جميع الأطراف، بين مريدي تقسيم العراق ومريدي وحدته، وبين مريدي الارتهان للمحور الأميركي ومريدي العراق المقاوم».




الصراع الكردي ــ الكردي

تتنافس للسيطرة على مدينة سنجار قوى كردية عدة، يسعى كل منها إلى تعزيز مواقعه وتحالفاته للاستفادة من أهمية المدينة الاستراتيجية في بلوغ أهدافه. ويأتي في مقدمة تلك القوى «حزب العمال الكردستاني» الموجود في سنجار على شكل وحدات عسكرية تسمى «وحدات مقاومة سنجار» (YBS)، والساعي إلى الاحتفاظ بتمركزه هناك، خلافاً لإرادة تركيا وحاكم أربيل.
في المقابل، يبرز نفوذ «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، بزعامة مسعود البرزاني، في الجزءين الشمالي والجنوبي من جبل سنجار، حيث يوجد مقاتلو «البشمركة» و«الأسايش» والاستخبارات والكوادر الحزبيين. ويعمل حزب البرزاني جاهداً على محاصرة خصومه في سنجار، وقطع خطوط إمدادهم وتحركاتهم، تمهيداً للاستفراد بالمدينة، وضمّها لاحقاً إلى إقليم كردستان. أما حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني»، بزعامة جلال الطالباني، المنافس التقليدي للبرزاني، فيوجد جناحه المسلح في سنجار تحت اسم «قوات حماية أيزيدخان» التي يقودها حيدر ششو. ويحاول «الاتحاد الكردستاني»، ظاهرياً، التزام الحياد ولعب دور الوسيط بين «الديمقراطي» و«العمال»، غير أن مسار الأحداث ينبئ بأنه يتطلع إلى الاستفادة من وجود «العمال» لضرب نفوذ حزب البرزاني في سنجار، ومن بعده تسيّد المدينة تحسباً لأي عملية اقتسام نفوذ محتملة.




الاستعادة في 2015: نقطة تحوّل

شكّلت استعادة سنجار من تنظيم «داعش» في نهاية 2015 نقطة تحوّل مهمة في مسار الحرب ضد التنظيم. فهي من جهة ألقت الضوء على مدى تبني واشنطن لتمدد قوات «البشمركة» بزعامة مسعود البرزاني في غرب العراق، فيما أعطت زخماً لـ«استراتيجية باراك أوباما ضد داعش، إذ إنها (كانت قد) بدأت تسفر عن نتائج»، كما شرح مسؤولون في الإدارة الأميركية السابقة لوكالة «رويترز» في حينه.
التوظيف الإعلامي الغربي لاستعادة تلك المدينة، قابله صمت عن وقائع كانت قيادات «الحشد الشعبي» قد ساهمت في فرضها منذ أيام حصار «داعش» للإيزيديين في جبل سنجار في صيف 2014، حين كان الجيش العراقي، كما «البشمركة»، في أسوأ أحوالهما، الأمر الذي دفع بشخصيات إيزيدية نحو التوجه إلى قيادات في «الحشد»، أبرزها أبو مهدي المهندس. عقد الأخير اتفاقاً مع «العمال الكردستاني»، ومع أربيل، وقضى بالآتي: إشراف المهندس على تحويل مساعدات للقوى المقاومة لـ«داعش» في سنجار، فيما عمل مسلحو «حزب العمّال» على شقّ طرقٍ لإخراج العوائل من خلف الجبال، باتجاه مناطق آمنة.