لم يتغيّر شيءٌ جذريّ الأسبوع الماضي. الجيش الأميركي دخل سوريا (والعراق) منذ 2014، احتلالاً صريحاً بلا تفويضٍ أممي ولا حجّة قانونيّة، وعدد القنابل التي ضربها على البلدين السنة الماضية يوازي عشرة أضعاف ما استخدمه خلال «الحرب» في أفغانستان خلال الفترة ذاتها. بالمعنى الأعمق، «السيادة» في بلادنا انتهت منذ اجتياح العراق عام 2003، حين دخل الجيش الأميركي الى المنطقة (ايضاً من دون حجّة أممية أو سندٍ قانوني) وبدأ ينظر الى دولها كـ«أهداف» ويعمل على هذا الأساس.
ليس جديداً ايضاً أن تساند نخبٌ وأنظمة عربية القصف الأميركي، فكلّ حرب غربيّة في المنطقة، من 1956 الى 1967 الى 1991 الى اليوم، كان لها معسكرٌ محلّيّ يؤيّدها ويكون الغزو دائما، في جانبٍ منه، جزءاً من حربٍ أهلية عربية، محلية أو اقليمية. اميركا لا تبني قواعد ودويلات وميليشيات في سوريا والعراق لأنّها تنوي الرّحيل، وهي لن تخرج بهدوءٍ وسلام. بل إنّ الضّربة نفسها لا يجب أن تكون محلّ استغراب، فكلّ من لديه نظرٌ يعرف بأنّ الجيش الأميركي، حين ينتهي من «داعش»، سينقضّ عليك، وسيضرب الجيش السوري، أو حزب الله، أو الحشد الشعبي؛ فالمواجهة قادمةٌ في كلّ الأحوال، وبديلها «التسوية» والرضوخ وخرائط التقسيم؛ بل وقد نرى، في القريب، القوّات الخاصّة الأميركية وهي تحارب الى جانب السعودية والامارات في ساحل اليمن.

أن ترى الحرب كغربيّ

موقف الإعلام الغربي والجو السياسي هناك مسألة نافلة ومحسومة سلفاً، فالإعلام لا يقدّم هذه الأحداث كتاريخٍ متّصل، بل كحملات بروباغاندا وتجييش. يحمل الباحث علي القادري نظرةً بالغة السلبية الى اليسار الغربي المعاصر عموماً (يقول إنّهم «نظّروا للمسألة الخطأ ومارسوا النظرية الخطأ»)، بما في ذلك تيار «الماركسية الغربية» وحركة «العداء للحرب» في اميركا واوروبا. المشكلة في حركة «لا للحرب»، يقول، ليست أنّها لم تتمكن فعلياً من منع نشوب أيّ حربٍ في الماضي، بل أنّها، حتّى حين تعارض الغزو والاستعمار، فإنّ حججها تقوم على «مصلحة» المجتمع الأميركي والطبقة الوسطى فيه؛ وليس على الاعتراف بالأذى الذي تسبّبه السياسة الأميركية للبشر حول العالم، وأنّ رفاهية وأسلوب حياة الأميركيين تعتمد على هذه الحروب. حين عارض «يساريّ» مثل مايكل مور حرب العراق، فهو أشار الى إعصار «كاترينا» والمشرّدين في نيو اورلينز، مردّداً أنّ نفقات الحرب يجب أن تذهب الى هؤلاء الأميركيين الفقراء، وليس على العراق (كأنّ الحرب «هبةٌ» لنا، والمشكلة هي في تكلفتها).
كان لي زميلٌ، يُعتبر اليوم من أكثر الأساتذة الشباب راديكاليّة وتسييساً في أميركا، وهو يعبّر عن آرائه (عن قصد) بطرقٍ فجّةٍ وصادمة كثيراً ما تدخله في عواصف إعلاميّة ونزاعات (اتّهمه الإعلام اليمينيّ منذ فترةٍ، مثلاً، بأنّه تمنّى إبادة البيض على حسابه في «تويتر». هو يقول إنّ التعبير كان تورية ساخرة). منذ أيّام، دخل الأستاذ\الناشط في معركةٍ جديدة حين انتقد، باحتقار، حفاوة الأميركيين بجنودهم حين يقابلونهم في المطارات، وظهر على برنامج الإعلامي اليميني تاكر كارلسون على قناة «فوكس» للدفاع عن نفسه. حين أراد هذا النّاشط ــــ الراديكالي، اليساري، الذي يسخر من الدين والرئيس والرموز القومية ــــ أن يبرّر موقفه، كانت حجّته الوحيدة هي حرصه على الجنود الأميركيين الفقراء الذين ترسلهم الرأسمالية للموت في حروبٍ عبثيّة، وأنّه يريد حمايتهم (أي أنّ الضحية الأساس هنا هم الجّنود الغزاة المساكين). المشكلة في هذه الحجّة، كحجّة «التكلفة»، هي أنّها غير صادقة ولا فاعلة. أميركا لم تعد في عصر التجنيد الإجباري، حيث كلّ فئات المجتمع تُرسل الى الحرب وتخسر أبناءها. الجيش اليوم محترف وصغير، عديده متطوّعٌ ومؤدلجٌ ومستعدٌّ للقتال، والحروب الاستعمارية من الممكن أن تشنّ بخسائر بشرية بسيطة، أو حتّى من دون خسائر وجنودٍ أميركيين على الأرض. المشكلة، حتّى في «حركة العداء للحرب»، هي أنّ هذا الجمهور يفهم موقعه في «لعبة النظام»؛ وهدفه معارضة الحرب وليس منعها (كالليبرالي أو اليساري الذي ينتخب مرشّحاً يعرف، يقيناً، أنّه سيشنّ حروباً في بلاد الفقراء، ثمّ يحتج ويتظاهر ضدّه حين يفعلها).
يزيد الكاتب الكندي ستيفن غوانز بأنّ الكثير من اليسار الأوروبي ــــ وامتداداته في بلادنا ــــ لا يعتبر أنّ في وسعه الدفاع، أخلاقياً، عن حركة أو دولةٍ في العالم الثالث الّا إن كانت في حالة «الضحيّة الكاملة»، العاجزة، «المثال» (على طريقة الهنود الحمر في داكوتا). ولكن، ما أن يحاول الضعيف أن يدافع عن نفسه ويتسلّح ويدخل ميدان الحرب والسياسة والتحالفات، فهو يصبح «شرساً» عنيفاً، يتمّ التبرّؤ منه وتصديق أيّ شيء يُقال عنه. لاحظوا كمّ الأكاذيب والدّعاية التي تحيط بالحشد الشعبي في العراق، وهذا لا يرجع فحسبٍ الى غايات سياسية واقليمية، بل الى أنّ الفقراء والريفيين و«ملح الأرض»، حين تنظّموا وتسلّحوا وأخذوا قدرهم بأيديهم، ضمن خطابٍ وطنيّ وايديولوجيا تعادي اميركا واسرائيل وحكّام الخليج، أصبح الجميع ضدّهم ويخجل من الدّفاع عنهم (بمن فيهم اليساريون، الذين يدّعون أنهم يسعون، تحديداً، الى دعم وتنظيم الفقراء والريفيين و«ملح الأرض»). وما توصيف الحشد بـ«الميليشيات الايرانية» أو «العصابات الطائفية» الّا وسيلةً لنزع «عراقيتهم» ومشروعيتهم عنهم (كأنهم ينتظرون منك الاعتراف بعراقيتهم). حتّى الغرباوي العربي الذي يقول إنّه يؤيّد «الثورة السورية» هو غالباً، إن سئل، سيدين أغلب الفصائل المقاتلة، الحقيقيّة والتي فيها جنود من لحمٍ ودم، والتي تحارب على أرض هذه «الثورة» وترفع رايتها (بمعنى أنّه لن يمانع، حين يأتي الموعد، بأن تضربها اميركا واحدةً تلو الأخرى).

ماكينة الحرب، عربياً

آخر من يهمّ في كلّ هذه الجوقة هي أصواتها التي تنطق بالعربيّة، فالحملة والبروباغاندا والحرب ستحصل معهم أو بدونهم، وهم ليسوا الّا صدى (ولو تصرّف النّخبوي العربي، الذي يحتقر العروبة والمقاومة وأي رابطٍ بك، مع بلادك وكأنّه يملكها، واعتبر أنّي سأتفاوض معه على مصيرها ومستقبلها، وهو سيقرّر من يستحقّ أن يعيش فيها وأن يموت). هناك إعلامٌ غربيّ، تأثيره يعبر القارّات، كلّه مجمعٌ منذ سنواتٍ على الحرب في سوريا، ومعه غالبية النّخب الحاكمة؛ كما أنّ الهيمنة المالية الخليجية، في السياق الإعلامي العربي، تحسم النّقاش. لا يوجد «قطبان» و«روايتان». من سيقف في وجه هذا السّيل من البروباغاندا، وماكينة إعلامية تملك الهيمنة والإجماع، وتقدر على «صنع» الحقائق والقواعد وتلقينها للجمهور؟ صحيفة «الأخبار»؟ (ولهذا السّبب تحديداً تثير «الأخبار» جنونهم، فهم لا يطيقون وجود صوتٍ واحد، مهما كان صغيراً ومتواضعاً في الحجم والإمكانيات، يتحدّى سطوتهم واحتكارهم. فلا يقدرون على احتمالها ولا على تجاهلها. ولهذا السّبب ايضاً فإنّ «الأخبار» ــــ وبغض النظر عن مضمونها حتّى ــــ هي المكان الذي يستحقّ أن تكتب فيه).
النّقاش مع هذه الفئة من العرب غير ممكنٍ لسببٍ منطقيّ بسيط، وهو أن الترجمة السياسية لما يطالبوننا به (وبثقة ووقاحة وبذاءة) هي، حرفيّاً، أن نموت، وهذا لن يفعله أحد. هم يتكلّمون، من غرف نومهم ومهاجرهم وحياتهم الهانئة، عن الحرب في بلادنا وكأنّها خيار أخذناه، ويشرحون لنا أنّ «الموقف الأخلاقي» هو أن نستسلم لعصاباتٍ مستعدّة، حين تدخل أرضنا وقرانا، لقتل أهلنا على الهوية، وتعتبر مدنيي «العدوّ» غنائم، ثمّ يتمنّون لك ضربة أميركية واحتلالاً؛ فماذا بقي للنقاش؟ الطريف في الموضوع هو أنّ آخر من يُسأل عن مصير سوريا، أو يؤخذ رأيه بالاعتبار، هو الشّعب السوري نفسه، والنّاس الذين يعيشون داخل البلد. النّاشط العربي (كنظيره في الغرب) قرّر سلفاً مصلحة سوريا وما يريده شعبها (وهو «رحيل بشّار»، والوصاية الغربية)، ولا أحد لديه فضولٌ ليستطلع رأي أهل سوريا قبل أن يبارك قصفهم. هذا مع أنّك كلّما اقتربت من الواقع ومن النّاس ومن التاريخ الحقيقي تجد وقائع تختلف جذرياً عن السّرديّة الإعلاميّة السائدة: في تحقيقٍ نشرته مجلّة «فورين افيرز» في ايلول الماضي، تمّ استطلاع آراء عيّنة من 2000 لاجىء سوري في لبنان، أي سوريّين طالتهم الحرب مباشرة ودمّرت أملاكهم وهجّرتهم. وقد عبّر أربعون في المئة منهم تقريباً عن دعمهم للحكومة في الحرب الدائرة، مقابل حوالي خمسين في المئة دعموا المعارضة بمختلف تلويناتها (تضيف المجلّة أنّ العيّنة ليست تمثيليّة للمجتمع السوري، فأكثر من 90% منها هم عربٌ سنّة؛ فيما عبّرت عيّنة احصائية واحدة ــــ ليس واحد في المئة، بل فردٌ مستَطلعٌ واحد ــــ من «الأقليات» عن دعمها للمعارضة).
جلّ ما نريد قوله، لمن يدّعي أنّ من يقف ضدّ أميركا والخليج في المنطقة يفعل ذلك بدواعي «المقاومة» و«الممانعة» (التي ما زلت لا أعرف معناها تماماً، ولا أقرأ عنها الا في أدبيات أعدائها) و«محاربة الامبريالية»: المسألة لا علاقة لها بهذه الحسابات ــــ وإن كانت كافية ــــ ما سيذكره التاريخ عن هذه الحقبة لن يكون ما يلهج به الإعلام اليوم، بل أنّ سوريا والعراق قد ضربتهما، في زمننا هذا، حركة إباديّة طائفية، طهّرت عرقيّاً نصف مساحة الإقليم، وانتم وقفتم معها (والعربي يتكلّم العربيّة، ويقرأ خطاب «الثورة» ومناصريها، ولا يسعنا أن نعذره، كما الأجنبي، بحجة الجهل). هذا، أصلاً، إن شئنا أن نعقد فصلاً وهمياً بين هذه الحركات وبين التمويل الخليجي والإرادة الأميركية. منذ سنةٍ تقريباً، قامت حكومات اميركا وبريطانيا وفرنسا، رسمياً، بحماية تنظيمات «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» من الضمّ الى «اللائحة السوداء» في الأمم المتّحدة. أمّنت الحكومات الغربية، اذاً، حصانةً قانونية، في أبرز محفلٍ دوليّ، لمجموعات سلفيّة وهابية تنادي علناً بالتكفير وبالقتل الطائفي (ولم يكترث أحد).

خاتمة

حين تأخذ انحيازاً سياسياً وموقفاً، فأنت تقف مع فئات ومع أناسٍ ضدّ فئاتٍ أخرى. عليك أن تختار بشراً حقيقيّين لتتماهى معهم وتتكلّم عنهم؛ في وسعك أن تقسّم المجتمع كما شئت (طبقات، طوائف، أمم) ولكن لا يوجد شيء اسمه «الناس» و«الانسانية» بالمعنى الهيولي، ولا هذا اسمه انحيازٌ وموقف. المثقّف الطائفي أكثر صدقاً واتّساقاً مع نفسه ممّن يقول إنّه «مع النّاس»، فطائفته ــــ على الأقل ــــ ترمز الى بشرٍ حقيقيّين، ولها سرديّة متّسقة عن نفسها وتاريخها. حتّى حين تفكّر وتكتب، فإنّ عليك الاختيار: مع من تتماهى والى من تتوجّه؟ الى الناس الفاسدين على «فايسبوك»؟ الى المؤسسة التي تبحث لنفسك عن مكانٍ فيها، وشبكات المصالح والنفاق والترويج المتبادل؟ النخبوي العربي، تاريخياً، «يتأقلم» باستمرار مع المحفّزات من حوله، يلتقط بحساسية وجهة المصالح والترقّي، فيقفز من الحضن «الوطني» الى «الأميركي»، ومن الإعلام الخليجي الى المنظّمة الدوليّة، وهكذا دواليك. ولكن، لأنّ الانتهازي هو في حالة «تأقلم» مستمرّة ولحاقٍ برأس المال ومركز الهيمنة، فإنّه عاجزٌ بنيوياً عن التنبّؤ بالحركات الصّاعدة وبما يجري في المجتمع «من تحت». نحن من جيلٍ يختلف عن سابقيه، وله ذاكرةٌ تناقض ذاكرة الهزيمة التي طغت في المجتمعات العربيّة وبين النّخب. ولدنا، في لبنان مثلاً، في ظروفٍ أشبه بالقعر، انكسارٌ واحتلال وحربٌ أهلية. ولكنّنا شهدنا، في حياتنا القصيرة، المقاومة ضد اسرائيل، وانتصار الـ2000، وانتصار 2006، وهزيمة أميركا في العراق، وتشكّل جبهةٍ صلبة تقاوم. مفهومنا، اذاً، عن «الممكن» و«الواقعي» قد يختلف مع من خرج من ثقافة السادات وإحباطات الماضي العربي، وهذا طبيعي.
حزب الله، الذي كان يعدّ آلافاً قليلة منذ عشر سنوات أصبح جيشاً حقيقياً؛ وقد ولدت «جيوشٌ» جديدة في اليمن والعراق من أتون الحرب، أكبر منه بكثير. كلّ هذه الحركات قد بنيت على فئاتٍ الريفيّين وفقراء المدن، وهي تحاكي تراثهم وتقاليدهم وتملك في الآن نفسه وعياً وطنياً وتنظيماً وفعالية؛ وهم من سيكتب التاريخ وليس «جماعة التوماهوك». في مقابلة تلفزيونية أخيرة، شرح خبيرٌ عراقيّ أنّ الحشد الشعبي (الذي يعمل بميزانية زهيدة، وموارد لا تذكر) لم يكتفِ بتحرير مساحاتٍ واسعة من العراق، وتنظيم مئات الآلاف، والانتصار على «داعش» ــــ بسهولة ــــ في كلّ مواجهة. بل إنّ الصحراء العراقية التي ظلّت، منذ أيام العثمانيين، خارج سلطة الدولة المركزيّة، أصبحت شبكة طرقٍ واستحكامات لا يتوه فيها أحد ولا يختبىء فيها عدوّ، فتمّ «إخضاع» الصحراء للمرّة الأولى في تاريخ العراق الحديث. «الحشد»، بالمناسبة، يمتلك اليوم إعلاماً محترفاً وبارعاً ولكنّه، كما يجدر به أن يفعل، لا يهتمّ بإقناع النخبوي العربي، أو منافسة «الجزيرة» وكسب المتابعين؛ بل هو يركّز على مجتمعه وميدانه، ويجنّد المناصرين وينشر أخبار معاركهم وأغانيهم وقصائدهم الشعبية. في وسعك أن تراقب حركة مجتمعك وأن تفهم من هي الفئات الصاعدة حقّاً، وفي وسعك أن تبقي عينيك على إعلام الخليج وصاروخ التوماهوك، ولكنّك لن تكون الّا صوتاً رديئاً في جوقة شرّ، العاقل الوحيد فيها هو من يتلقّى بدلاً عن موقفه وصوته.