جاهداً، يحاول الدركي الواقف في محاذاة مستديرة إيليا ضبط سترته الفوسفورية، فيما تتابع يمناه الإشارة إلى السيارات كي تكمل طريقها. يبدو وحيداً في مواجهة الريح التي تهبّ من ناحية الغرب مصحوبةً بأمطار موحلة. حتى شجيرات النخيل على الطريق البحري لمدينة صيدا تشبهه، فهي تصارع وحيدة أيضاً، بعدما غرقت أخيراً نتيجة غزارة الأمطار و«تقصير البلدية في أداء بعض خدماتها» كما يقول المتضررون هنا.
جولة قصيرة في شوارع صيدا كفيلة بتصوير المشهد الذي أرخى بظلاله في خلال الأيام الماضية، وقد حوّلها إلى «مدينة أشباح». لا يمكن الفصل مطلقاً بين ما يدور في أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وعاصمة الجنوب وجوارها. إذ أغلقت المدارس والجامعات وبعض المصالح التجارية أبوابها، نتيجة المعركة التي تخوضها القوة الفلسطينية المشتركة وحركة فتح ضد مجموعة بلال بدر في عين الحلوة، فيما طاولت قذائف بيوتاً خارج المخيم، وسبّبت احتراق أحد المخازن التجارية.
من يعوّض على المتضررين من اللبنانيين؟ بحسب رئيس البلدية محمد السعودي، «سنبحث في آلية التعويضات، وما إذا كانت ستُلقى على كاهل منظمة التحرير أو لجنة الإغاثة أو غيرهما من الأطراف». أما المخيم الذي يتبع جزء منه لبلدية صيدا وجزء آخر لبلدية درب السيم، «فليس المطلوب من البلدية أن ترسل دباباتها. ويقع على عاتق القوى الفلسطينية والدولة اللبنانية إيجاد حل للتوتر الأمني داخل المخيم». وفقط «ما يمكننا فعله هو الوقوف في صف الإجماع الفلسطيني، وإضرابنا في الاشتباك السابق كان رسالة إلى هذه القوى كي تنهي الحالة الشاذة».

لا يستبعد أسامة
سعد أن ينتهي المطاف بنهر البارد آخر


الناظر إلى خريطة المخيم، الواقع جغرافياً ضمن المدينة الثالثة لبنانياً، قد تتكشف له مسألة أعقد من مجرد عشريني متطرف، شغل، من مربعه الأمني في حيّ الطيرة، بال الفصائل الفلسطينية وأجهزة الدولة اللبنانية. إذ إن هناك أكثر من خمسة مربعات أمنية أخرى تديرها جماعات متطرفة كـ«عصبة الانصار» و«جند الشام» وغيرهما، أسهمت جملة من الأسباب في تقويتها، على رأسها «الدعم» الذي وفّرته قوى سياسية مختلفة، إضافة إلى فرض «أولويات على المخيم غير أولوياته الحقيقية التي كانت بالأساس تتلخص في توفير فرص حياتية ومعيشية لائقة، وتعزيز نضاله الطويل لنيل حقوقه الوطنية، وفي مقدمتها حق العودة»، كما يقول رئيس «التنظيم الشعبي الناصري» أسامة سعد لـ«الأخبار». ويوضح أن «الأولويات التي فرضت على اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة، تزامنت مع صعود التيارات الطائفية والمذهبية المتشددة في الواقعين اللبناني والعربي، وانعكست بالتالي على بعض الشباب في المخيم من الذين انضموا إلى هذه الجماعات».
ويعزو سعد وصول الأمور في المخيم إلى هذه المرحلة إلى «السياسات الخاطئة التي اتخذتها الدولة اللبنانية بحق اللاجئين الفلسطينيين، ونظرتها المقتصرة على الجانب الأمني مع تغييب كافة القضايا المعيشية والاجتماعية». فمن وجهة نظره «لم تحدد الدولة حتى اللحظة ما الذي تريده من عين الحلوة، كذلك فإنها لا تسمع ما يريده الناس». إضافة إلى ذلك «تتحمل الفصائل الفلسطينية من دون استثناء تراجع المناخ الوطني داخل المخيمات، وما ترتب عنه من تمدد حالات التطرف الديني والعنفي».
لأهل عين الحلوة، الذي يُعَدّ حياً من أحياء صيدا، روابط وجذور تاريخية واجتماعية مع أهالي المدينة منذ ما قبل احتلال فلسطين، وما نتج منه من تهجير ونزوح عزز الروابط بين اللبنانيين والفلسطينيين، وطوّر العلاقات على الصعد الاجتماعية والقومية والوطنية والأمنية وغيرها. ولذلك، فإن وقوعه ضمن المدينة التي تُعَدّ جسر عبور بين جنوب لبنان وشماله، إضافة إلى واقعه الأمني الحالي، لا يهدد فقط طريق الجنوب ومن يسلكها، بل «يهدد أهل المخيم أنفسهم، وكذلك أهالي صيدا. لكن هذا التهديد لا يريد الآخرون رؤيته ولا الإشارة إليه، علماً بأنَّ الناس هم من يدفع الثمن»، كما يقول سعد، مطالباً بـ«بذل كل جهد ممكن لكي لا ينتهي المطاف بمخيم عين الحلوة وحيّ التعمير الواقع بجواره، إلى نهر بارد آخر»، خصوصاً أنه بدأت تسمع أصوات شعبية تدعو لدخول الجيش اللبناني وحسم المعركة.
ليست «بلوة» صيدا الوحيدة في أنها تتحول مع كل اشتباك مسلح في زواريب المخيم من مدينة كبرى إلى مجرد «ضاحية» تتأثر بالمجريات الأمنية الدائرة فتغلق مؤسساتها التعليمية والتجارية، بل هي أساساً تعاني من تراجع اقتصادي له أسبابه المتعددة، وعلى رأسها «الرؤية التنموية للطبقة الحاكمة في المدينة، التي ترى التنمية في مشاريع تجارية وأبنية جميلة، وليست تنمية يصنعها الناس ومردودها لهم»، كما يرى سعد، مضيفاً أن «الطبقة السياسية الحاكمة في المدينة حاربت رزق الفقراء عبر منع أصحاب العربات من التجول، بحجة تشويه مظهر المدينة، من دون أن توفر لهم مصادر رزق أخرى». كذلك، دفع رفع شعار «صيدا لأهلها» أهل الجوار إلى التفكير ملياً قبل التردد على المدينة، فضلاً عن ظاهرة أحمد الأسير والتعبئة المذهبية التي انعكست أيضاً على نظرة أهل الجنوب إلى المدينة.