لفيروز (الصورة) علاقة خاصة بالترنيم الديني، وبالأخص في زمن الفصح. أسطوانتها التي حوَت ترانيم الجمعة الحزينة (والقيامة) تُعتبَر مرجعاً عربياً، بل عالمياً. لكن إطلالاتها شبه الثابتة في السنوات الأخيرة لتقديم ترنيمة جديدة (أو أكثر) لم يسبق أن أنشدتها بصوتها من قبل (أو من الأسطوانة المذكورة)، هي أجمل عيدية يمكن أن يتلقّاها عشاقها من كل الأديان.
أجمل هذه السنوات هي تلك التي أطلّت فيها في ترتيلٍ مباشر من كنائس اختارتها، ركعت وصَلّت فيها أمام جموعٍ احتشدت في الداخل والخارج وعلى الشبابيك. كانت لحظات خشوع موسيقية/ دينية يكاد يشعّ منها النور. بعدها، تولّت ريما الرحباني تصوير «العيدية» وإرسالها إلى التلفزيونات لتبثّها، ثم راحت تنشرها على قناتها الخاصة على يوتيوب. قبل سنتَين، نعِمنا بترتيلتَين تمّ تصويرهما في كنيسة «سيدة الناطور» (أنفه ــ الساحل الشمالي)، الأولى كانت «افرحي يا بيت عنيا» (لمناسبة سبت لعازر) وصلتنا في 4 نيسان (أبريل)، وتلتها في الـ13 منه مديحة «يا م ر ي م» (ترنيمة مريمية من الكنيسة القبطية).
مساء أوّل من أمس، كانت المفاجأة كبيرة وجميلة. لم نكن نتوقّع، لم نكن نعلم ولم نكن نأمل كثيراً، لأنّ السنة الماضية لم تزُر شمس فيروز بيوتنا، ولاعتقادنا، بالتالي، أن السنين الثمانين ربما بلغ تأثيرها المُحِقّ الحنجرة المتمرّدة العصيّة. نشرت ريما «في ملكوتك» التي تم تصويرها في كنيسة «القديس جاورجيوس» (دير الحرف). إنها عبارة عن التطويبات التسع (طوبى للمساكين بالروح، للحزانى، للودعاء، لأنقياء القلوب، لصانعي السلام…)، تنشدها فيروز منفردةً فوق الـ «إيسون» (الصوت الخافت والثابت على نوتة واحدة منخفضة) الذي يؤمّنه رجال الجوقة المرافقة، قبل أن يردّوا في كل مرّة: «اذكرني يا رب متى أتيتَ في ملكوتك».
تلاقيهم فيروز هنا بكلمة، يلاقونها بدورهم لدعم الحالة الإنشادية هناك. لا مرافقة موسيقية. إنها ترتيلة غير موقّعة، تسمح بالتلاعب الصوتي نغماً وإيقاعاً، وهذا تحديداً ما يجعل منها ترتيلةً «لفيروز». فهي المعملِّة الكبرى في هذه الصنعة.
تسمع. تكرِّر. تفتّش عن هفوة، عن لحظة ضعف. وفي النتيجة، آمنت في الأعاجيب أم لا، لن تستطيع تفسير هذا الصوت. هذه الخامة التي ازدادت جمالاً. هذه النبرة الحسنة الآتية من حنجرة عتّقها الزمن والخبرة. هذه السهولة في استخراج النغمة وفي أداء اللحن وصناعة زخرفاته. من أين كل هذا؟ إن لم يكن ذلك أعجوبة، فكيف تكون الأعاجيب؟
بعد النشوة، تستفيق. تتذكّر زياد وتحفه النائمة قربه في الجرّار ينتظرون سوياً... وننتظر. طوبى للمنتظرين. «في أمل، إيه في أمل. أوقات بيطلَع من ملل».