تجاهل وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس، أثناء حديثه إلى الصحافيين على متن طائرة أقلته إلى السعودية، من حيث يبدأ جولة إقليمية في المنطقة، الإجابة عن سؤال حيال إمكانية زيادة الدعم الأميركي للرياض ولحلفائها في الحرب على اليمن، لكنه قال إن «هدفنا حيال هذا النزاع الوصول إلى طاولة مفاوضات برعاية الأمم المتحدة».
موقف ماتيس الحالي هو تعبير عن منشأ ومبررات موقف واشنطن الحقيقي في أروقة القرار للإدارة السابقة في الشهور الأخيرة من عمرها، الذي أفضى إلى عقم المسار العسكري في اليمن، والذي سرعان ما توصلت إليه إدارة دونالد ترامب خلال أقل من مئة يوم على وجودها في البيت الأبيض، وهو موقف نائب وزير الدفاع الأميركي السابق الصادر أول من أمس، إذ أعلن ما لم يكن بإلامكان إعلانه أو البوح به قبل ثلاثة شهور، حينما كان يشغل منصبه.
آنذاك، قال إن تصعيد الحرب في اليمن التي تقودها السعودية سيكون خطأً كبيراً، مضيفاً أن الحرب كارثة على الشعب اليمني وجنوب السعودية، ومعترفاً بأن الأخيرة لم تتمكن من ترجمة نفقاتها الدفاعية الكبيرة إلى نتيجة سياسية رغم عقود من التدريب الأميركي للجيش السعودي. كذلك كشف عن أن جهود بلاده مع الشركاء الخليجيين والمغامرات الوهمية في هذه الحرب كانت لبيع الوقت، معترفاً بأن الجهود الدبلوماسية لإقناع الخليجيين بالخروج من مستنقعهم في اليمن لم تنجح.
تأتي تصريحات ماتيس بعد جهد ميداني لقوى العدوان في الحدود القصوى شهدته الجبهات كافة دفعة واحدة في الأسابيع الأخيرة. فقد اشتعلت جبهات الساحل الغربي، وجبهة نهم شرقي صنعاء، وجبهة صرواح في مأرب، وجبهة بيحان في شبوة، في وقت متزامن مع حضور مباشر لقيادات سعودية وإماراتية في إدارة الجبهات، إضافة إلى قيادات الصف الأول من الفصائل الجنوبية المستأجرة للقتال في مختلف محاور الشمال.
وكان واضحاً أن السعودية والملتحقين بها يعملون بإصرار على تحقيق نتائج ميدانية تصلح لتهيئة ظروف تتيح المراهنة على نجاح جديد يمكن أن تمضي به إدارة ترامب كرهان مجد، ولكن ما حدث من مراوحة عسكرية وميدانية وإخفاق في تحقيق نتائج ملموسة أتى برد فعل عكسي، إذ تأكد أكثر من أي وقت مضى أنه يصعب تحقيق أي تحول ميداني لمصلحة الرياض والملتحقين بها، وما تكرار العمليات العسكرية إلا تحول في الحرب الكلاسيكية إلى حرب عصابات واستنزاف لهم جميعاً إلى أمد طويل. وفي هذا الإطار، يأتي إعلان المتحدث باسم العدوان أحمد عسيري عن أنه لا يوجد على أجندة قيادته نيات عدائية تجاه ميناء الحديدة في الوقت الراهن.
ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي خلال جولته في المنطقة، ومنها السعودية، إضافة إلى مجموعة تعليقات لكبريات الصحف ووسائل الإعلام الأميركية، تصبّ كلها في الاتجاه نفسه، كذلك تظهر أن الاندفاعة الأولى «الصاخبة» لتوجه واشنطن بدأت تنحو إلى الفرملة، وتأخذ المسار الطبيعي الذي وصلت إليه الإدارة السابقة في الشهور الثلاثة الأخيرة من عمرها في تفعيل المسار السياسي وإطلاق مبادرة للحل، وذلك في ما أطلق عليه مبادرة كيري للحل السلمي في اليمن.
ولو أن السعودية والملتحقين بها استطاعوا تحقيق أي إنجاز، لكانت واشنطن تماشت معه وتبنّته بالكامل. أما موقفها المتردد حالياً، فليس من باب كرم الأخلاق السياسي على الشعب اليمني أو من موقف إنساني جرّاء الوضع الاقتصادي المتدهور بسبب الحصار والعدوان، فهي بالأصل تعترف بالمشاركة فيه عبر الدعم اللوجستي والاستخباري والفني وتزويد الطائرات السعودية بالوقود جواً، إضافة إلى الحماية السياسية في مجلس الأمن ومنظمات حقوق الإنسان.
اليوم، بعد إخفاق حلفاء واشنطن في تحقيق نتائج يمكن استثمارها في المسار السياسي، ستكون إدارة ترامب أمام استحقاقات غير سهلة، وهي تجد نفسها أمام خيارين: الأول، توسعة مشاركتها المباشرة والتدخل الميداني على الأرض، وهو خيار تصرّ واشنطن على استبعاده حتى اللحظة لأسباب مختلفة، ولا سيما أن البارز فيه أنه غير مضمون النتائج، وخشيتها هي الأخرى من وقوعها في حرب استنزاف طويلة الأمد، والخيار الثاني هو الحل السياسي في إطار مفاوضات ترعاها الأمم المتحدة، بغض النظر عن نتيجة تلك المفاوضات. وعلى كل حال، لا بد للإدارة الأميركية من سلوك المسار السياسي ابتداءً، للادّعاء في ما بعد أنها استنفدت السبل السياسية.
في كلا الخيارين، على الخليجيين، سواء اتجهت واشنطن في اتجاه الحل السياسي أو التصعيد الميداني الإضافي والمكرر، سيكون القرار أميركياً من دون شراكتهم إطلاقاً، لأن الخليجي يكون في هذه الحالة قد فقد هامش المناورة، الأمر الذي سيحصر القرار في يد واشنطن فقط. وعلى الخليجيين أمام هذين الخيارين: الإذعان... أو الإذعان.