دمشق | على باب مدخل البناء القديم، علّقت يافطة كتب عليها اسم الجهة الحكومية التابعة لوزارة الثقافة. نعتقد بأن هذه الدائرة هي موقع التصوير الذي اختاره بعناية المخرج السوري محمد عبد العزيز لإنجاز البلوك الرئيسي (منزل نجيب الذي يلعب شخصيته عباس النوري) في مسلسله «ترجمان الأشواق» (عن نص فيلم كتبه عبد العزيز وأعاد بشار عبّاس كتابته كمسلسل تلفزيوني- إنتاج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني»، بطولة غسان مسعود، وفايز قزق، وثناء دبسي، ورنا ريشة، وعلي صطوف...).
لكن المخرج الشاب اختار أن ينخفض طابقاً واحداً عن المقرّ الحكومي. في منزل أشبه بمتحف أثري، تدور كاميرته لتصوغ مشاهد المسلسل. الشرفة تطلّ على ساحة المرجة، وعلى الشارع الواصل إلى «جسر فكتوريا» في الوقت ذاته. الدلالة الرمزية للمكان واضحة جداً، على اعتبار أن نجيب رجل يساري خرج من المعتقل، فقرر السفر. لكن بعد عشرين عاماً، سيتلقى اتصالاً هاتفياً هو المشهد المفتاحي للعمل حيث يخبرونه أن ابنته اختطفت! يقرر العودة بحثاً عن وحيدته الضائعة، لكنه في النهاية يجد نفسه يبحث عن بلاده المنهارة. يعيد اكتشاف علاقاته السابقة مع صديقيه اللذين رافقاه في المعتقل (غسان مسعود وفايز قزق). هكذا، ضبطت الدلالة المكانية ببراعة من عبد العزيز، فهنا أعدم جمال باشا السفّاح سنة 1915 مجموعة من الأحرار العرب بعد اتهامهم بخيانة «الدولة العليّة». وهنا أيضاً كان يرمي الاستعمار الفرنسي جثث أبطال «الثورة السورية الكبرى» (1925ـــ1927) ليثير الرعب في نفوس العامة. وهنا ارتفع نصب «التلغراف البرونزي» الذي صممّه قبل أكثر من مئة عام الإيطالي بابلو روسيني. وعلى هذه الأحياء كان يطوف نهر بردى، فيغمرها ليحيلها بعد انتهاء الكارثة، خضراء خصبة، فمنح الساحة الشهيرة اسمها. ومن الشرفة ذاتها، نقابل بناء وزارة الداخلية القديم، هو ذاته «بناء السرايا» أيام الاحتلال العثماني، الذي حكم الشرق الأوسط قروناً عدة انطلاقاً من سراياه. بالتوازي مع ذاك التاريخ العامر، نطل على فندق الـ «فورسيزون» أحد وجوه دمشق الحداثوية الطارئة، التي لم يكتب لها أن تكتمل بالنهوض.
نستهل نقاشاتنا مع الممثلين في موقع التصوير بسؤال النجمة ثناء دبسي عن دورها، فتقول: «ألعب دور والدة نجيب. الأم المثالية التي تنحو بأدائها والشكل الذي بنيت عليه، لتكون معادلاً لسوريا. هذه الأم الكبيرة تحاول أن تلم أبناءها. تعيد من سافر، وتصالح من يزعل، وتبذل جهدها لتكون عائلتها تحت جناحيها». لا تخفي نجمة «زمن العار» خوفها من تعثّر العمل بموضوع اللحاق بالموسم الرمضاني، لكنها في المقابل تشرح عن استمتاعها بالقصة بين يديها، وتأمل أن تكون الحلقات الختامية على السوية ذاتها من التشويق والحبكة.

تقاطع مع عدد كبير من الشخصيات السورية الواقعية



أما النجم عبّاس النوري الذي ملأت صوره البيت، إلى درجة أنه استعان بصورة قديمة له مع ابنته الطبيبة رنيم، عندما كانت طفلة، لإضافة بعد حقيقي، فيبدو مؤمناً بما يقدمه إلى درجة كبيرة. حتى إنّه اعتذر عن عدم لعب بطولة مسلسل «فوضى» (كتابة حسن سامي يوسف ونجيب نصير، وإخراج سمير حسين) وتفرّغ لهذه الشخصية النقيضة تماماً ــ على مستوى الشكل والمضمون ــ لدوره في «باب الحارة». عسى أن تكون شخصيته هذه تكفيراً على صعيد القيمة الفنية عن شخصية «أبو عصام»! في حديثه مع «الأخبار»، يقول النوري: «نجيب هو معتقل ماركسي، يخرج من السجن، فيجد أن زوجته قد طلّقته غيابياً، واحتفظت بحضانة ابنتهما الوحيدة وفقاً للقانون. يترك كلّ شيء ويسافر، وينغمس في تطوير ذاته، وتعلّم لغات عدة، والعمل على ترجمة الماركسية الجديدة. لكنّه سيعود بحثاً عن ابنته المخطوفة ليجد بعد قرابة ربع قرن أنه لم يضع عائلته فقط، بل فقد كل بلاده». تتقاطع الشخصية مع عدد كبير من الشخصيات السورية الواقعية، لكن بعض هؤلاء خرج من السجن مصاباً بنهم حياتي فظيع، فهل سنلاحظ هذا الجانب في شخصية نجيب؟ يرد نجم «الاجتياح»: «الحكاية لا تقتصر على شخصية واحدة، بل تؤدي بطولتها ثلاث شخصيات، إحداها تتضمن ما أشرت إليه، إذ تغرق هذه الشخصية في ملاهي الحياة قبل أن تتجه نحو التصوّف وتخلق لنفسها دوراً في التعاطي مع الجماعات الإسلامية العاملة على الأرض في الحرب السورية، وتحاول أن تلعب دوراً في المصالحات التي تحدث».
انشغال محمد عبد العزيز يقودنا إلى تجّنب الحوار معه حرصاً على وقته، من دون أن نسأله سبب استعارته عنوان ديوان شهير للشيخ الصوفي الأكبر محيي الدين بن عربي ليكون اسماً للمسلسل التلفزيوني الذي يقدّم ضمن حكايته شخصية متصوّف. لكن سنسترق الوقت في زحمة التحضير لمشهد جديد، وننقل إليه ما نسمعه عن البطء في الإنجاز، على اعتبار أن من يدير اللوكيشن هو مخرج سينمائي. ينفي صاحب «الرابعة بتوقيت الفردوس» هذا الكلام، مضيفاً: «هذه التعليقات يتم تداولها من دون معرفة عميقة بتفاصيل العمل، نحن ننجز بشكل جيّد، وسيكون جاهزاً في رمضان». نسأل عن حقيقة مصطلح «سينما التلفزيون» والجديد الذي يمكن أن يضيفه مخرج سينما إلى العمل التلفزيوني. لكنه يؤجل الجواب، ربما ليترك الكلام الفصل للنتيجة النهائية، عساه يمنح المتلقي فرصة التماس الفرق بنفسه عند المشاهدة.