طرأ شيء جديد على العنف الإرهابيّ الجهاديّ في العقدين الأخيرين. فالإرهاب والجهاد موجودان منذ سنوات طويلة، وتعود أشكال الإرهاب «المعولم» ــ الذي يستهدف مواقع مغرقة في الرمزيّة أو مدنيّين أبرياء، دون اعتبار للحدود الوطنيّة ــ إلى الحركة الفوضويّة في نهاية القرن التاسع عشر على الأقلّ. الشيء الجديد والفذّ هو الطريقة التي يتقصّدها الإرهابيّون لقتل أنفسهم.
على امتداد العقدين الماضيين، من خالد كلكال قائد مخطط تفجير قطارات باريس عام 1995، إلى قتلة الباتاكلان عام 2015، قام جلُّ الإرهابيّين في فرنسا بتفجير أنفسهم أو دفعوا الشرطة إلى قتلهم. وقد تلفّظ محمد مراح، الذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهوديّة بمدينة تولوز عام 2012، بجملة من بيان مشهور منسوب إلى أسامة بن لادن ويستخدمه جهاديون آخرون على نحو روتينيّ: «نحن نحبّ الموت قدر حبّكم للحياة». وبهذا، لم يعد مقتل الإرهابيّ اليوم مجرّد احتمال من ضمن احتمالات أخرى أو نتيجة مؤسفة لأفعاله، بل صار جزءاً مركزيّاً من خطّته. ويسود هذا الافتتان بالموت صفوف الجهاديّين الملتحقين بتنظيم الدولة الإسلاميّة «داعش»، حيث ينظرون إلى الهجمات الانتحاريّة على أنّها الهدف النهائيّ لانخراطهم فيه.
ويُعدّ هذا الاختيار النسقيّ للموت تطوّراً حديثاً. فقد كان مرتكبو الهجمات الإرهابيّة في فرنسا في السبعينيات والثمانينيات، سواء ارتبطوا بالشرق الأوسط أو لا، يخططون لهربهم بعناية. وإن كان التراث الإسلاميّ يُقرّ بجدارة الشهيد الذي يموت في القتال، فهو لا يُثيب المهاجِمين سعياً وراء الموت، لأنّ ذلك يُعدّ بمثابة تدخّل في مشيئة الله. فلماذا اختار إرهابيّون، على امتداد العقدين الماضيّين، الموت على نحو منتظم؟ ماذا يعني ذلك للراديكاليّة الإسلاميّة المعاصرة؟ وماذا يعني لمجتمعاتنا اليوم؟
السؤال الأخير وثيق الصلة بالموضوع، إذ يرتبط هذا الموقف من الموت على نحو لا فكاك منه بكون الجهاديّة المعاصرة، على الأقل في الغرب وفي المغرب العربي وتركيا، حركة شبابيّة قائمة على الاستقلال عن مرجعيّات الآباء الدينيّة والثقافيّة، لكنها متجذّرة في «ثقافة شباب» مجتمعاتنا. وهذا ملمح أساسيّ من ملامح الجهاديّة الراهنة.
وحيثما يظهر صراع جيليّ مشابه، فهو يتّخذ أيضاً شكلاً معادياً للأيقونات الثقافيّة. وهو لا يُحطّم البشر فحسب، بل يُحطّم كذلك التماثيل وأماكن العبادة والكتب، ويمحق الذاكرة. إنّ «فسخ الماضي» هدف مشترك بين حرس ماو تسي تونغ الأحمر، والخمير الحُمر ومقاتلي داعش. وكما كتب أحد الجهاديّين البريطانيّين في بيان تجنيد للمنظّمة: «حين نحطّ الرحال في شوارع لندن وباريس وواشنطن... لن نكتفي بسفك دمائكم، بل سندمّر أيضاً تماثيلكم، ونمحو تاريخكم، والأكثر إيلاماً، سنُهدي أطفالكم الذين سيناصروننا أسماءنا ويلعنون أسلافهم».
وفي حين تستقطب جميع الثورات طاقة الشباب وحماسهم، فإنّ أغلبها لا تسعى لفسخ ما سبقها. فقد قرّرت الثورة البلشفيّة وضع الماضي في متاحف عوض تدميره، ولم تفكّر جمهوريّة إيران الإسلاميّة الثوريّة قطّ في تفجير مدينة برسيبوليس.
ولا ينطوي بُعد التدمير الذاتيّ على أيّ علاقة بسياسة الشرق الأوسط، فهي استراتيجيّة ذات نتائج عكسيّة. ورغم تصريح تنظيم داعش بأنّ مهمّته هي استعادة الخلافة، فإنّ عدميّته تجعل من المستحيل بلوغ حلّ سياسيّ، أو الانخراط في أيّ شكل من أشكال التفاوض، أو التوصّل إلى مجتمع مستقرّ ضمن حدود معترف بها.
الخلافة وهم، وهي أسطورة كيان أيديولوجيّ يمدّد مجال نفوذه باستمرار. ولعلّ استحالة قيامها من الناحية الاستراتيجيّة هي ما يُفسّر سبب اختيار المتماهين معها الدخول في ميثاق موت، بدل نذر أنفسهم لخدمة مصالح المسلمين المحليّين. ذلك أن لا أفق سياسيّاً لهم، ولا مستقبل مشرقاً، ولا حتى مكان يصلّون فيه في سلام. وفيما يمثّل مفهوم الخلافة جزءاً من المخيال الدينيّ الإسلامي، لا ينطبق الأمر ذاته على مسألة السعي وراء الموت.
وعلاوة على ذلك، فإنّ الإرهاب الانتحاريّ لا يُعدّ فعّالاً من الناحية العسكريّة. ففي حين نجد درجة من العقلانيّة في الإرهاب «البسيط»، الذي يحقّق بمقتضاه بعض الأفراد العنيدين ضرراً بالغاً بعدوّ أشدّ بأساً، نجدها غائبة كليّاً عن الهجمات الانتحاريّة. إذ لا ينطوي توظيف مسلّحين من ذوي الخبرة لمرّة واحدة فقط على أيّ ضرب من العقلانيّة. كما أنّ الهجمات الإرهابيّة لا يُمكنها إذلال الغرب، وقصارى ما تفعله هو استثارة ردود فعل عكسيّة فحسب. إضافة إلى أنّ هذا الطراز من الإرهاب يقتل من المسلمين أكثر مما يقتل من الغربيّين.
ويمثّل الارتباط النسقيّ بالموت أحد مفاتيح فهم الراديكاليّة الراهنة، إذ أنّ البعد العدميّ مركزيّ لفهمها. فما يغري ويفتن، هو فكرة الثورة المحضة، العنف في نظرها ليس مجرّد أداة، فهو غاية في حدّ ذاته.
ولا تنتهي القصّة عند هذا الحدّ، إذ من الممكن تخيّل ظهور أشكال إرهابيّة أخرى أكثر «عقلانيّة» على مسرح الأحداث قريباً. ومن الممكن أيضاً أن يكون هذا الشكل من الإرهاب مؤقّتاً.
ومن دون شكّ، فإنّ أسباب ظهور تنظيم داعش مرتبطة بالسياسة في الشرق الأوسط، وزواله لن يغيّر العناصر القاعديّة للوضع. فداعش لم يخلق الإرهاب، بل هو ينهل من معين قائم بالفعل. ولعلّ عبقريّة داعش تكمن في الطريقة التي يمدّ بها المتطوعين بإطار سرديّ يمكّنهم من تحقيق تطلّعاتهم. ومن الأفضل للتنظيم أن يكون المتطوّعون للموت (المضطربون، والهشّون، والثوّار من دون قضيّة) من ذوي الارتباط الضعيف بالحركة، لكنّهم مستعدّون لإعلان ولائهم حتّى تغدو أعمالهم الانتحاريّة جزءاً من سرديّة عالميّة.
لذلك، نحن في حاجة إلى مقاربة جديدة لمشكلة داعش. نحتاج إلى مقاربة تلتمس فهم العنف الإسلاميّ المعاصر إلى جانب أشكال عنف وراديكاليّة أخرى مشابهة له، أي تلك التي تنطوي على ثورة جيليّة، وتدمير ذاتي، وقطيعة جذريّة مع المجتمع، و«إستيطيقا عنف»، وطوائف قياميّة.
والحقّ أنّه كثيراً ما ينسى الناس أنّ الإرهاب الانتحاريّ والمنظمات الشبيهة بالقاعدة وداعش جديدة في تاريخ العالم الإسلاميّ، ولا يمكن تفسيرها من خلال ربطها ببساطة بصعود الأصوليّة. لذا، يجب علينا فهم أنّ الإرهاب لا ينشأ من ردكلة الإسلام، بل من أسلمة الراديكاليّة.
وبعيداً عن تبرئة الإسلام، تجبرنا جملة «أسلمة الراديكاليّة» على التساؤل عن السبب والطريقة التي وجد بمقتضاهما شباب متمرّد في الإسلام نموذجاً لثورتهم الشاملة، دون أن ينفي هذا حقيقة تطوّر إسلام أصوليّ منذ ما يزيد على 40 عاماً.
وقد لاقت هذه المقاربة نقداً صريحاً. حيث يزعم أحد الباحثين أنّي تجاهلتُ الأسباب السياسيّة للفوران، وبالأساس، الإرث الاستعماريّ والتدخّلات العسكريّة الغربيّة ضدّ شعوب الشرق الأوسط، والإقصاء الاجتماعيّ للمهاجرين وأبنائهم. ومن الجهة المقابلة، تمّ اتّهامي بإهمال الرابط بين العنف الإرهابيّ وردكلة الإسلام من خلال السلفيّة بوصفها التأويل الأكثر محافظة للدّين. والحقّ أنّني على وعي كامل بهذه الأبعاد، لكنّني أقول ببساطة إنّها غير كافية لتفسير الظاهرة التي ندرسها، لافتقادها رابطاً سببيّاً بالمعطيات الإمبريقيّة (التجريبية) المتوفّرة لدينا.
ما أطرحه هو أنّ الردكلة العنيفة ليست نتيجة الردكلة الدينيّة، حتّى ولو سلكت في كثير من الأحيان نفس الدروب أو استعارت نفس النماذج. فالأصوليّة الدينيّة موجودة بالطبع، وهي تطرح مشاكل اجتماعيّة معتبرة، لأنّها ترفض القيم المؤسّسة على الخيار الفرديّ والحريّة الشخصيّة، لكنّها لا تقود ضرورة إلى العنف السياسيّ.
أما الاعتراض القائل بأنّ الراديكاليّين تحرّضهم «المعاناة» التي عرفها المسلمون المستعمَرون سابقاً، أو ضحايا العنصريّة أو أيّ شكل آخر من أشكال التمييز، أو القصف الأميركيّ، أو الطائرات من دون طيّار، أو الاستشراق... إلخ، فهو يعني ضمناً أنّ الثورة يقودها الضحايا. لكن العلاقة بين الراديكاليّين والضحايا خياليّة أكثر ممّا هي واقعيّة.
فمرتكبو الهجمات في أوروبّا لا ينتمون إلى قطاع غزّة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة الأكثر فقراً، والأكثر إهانة أو الأقل اندماجاً. وتُظهر حقيقة أنّ ربع الجهاديّين ممّن دخلوا الإسلام حديثاً أنّ الرابط بين الراديكاليّين وبين «شعبهم» هو، إلى حدّ بعيد، بناء خياليّ.
فالثوّار لا ينحدرون إلاّ نادراً من الطبقات المسحوقة، وما تماهيهم مع البروليتاريا ومع «الحشود» والمستعمَرين، سوى خيار مبنيّ على أمر يتجاوز حالتهم الموضوعيّة، إذ لا نجد سوى قلّة من الجهاديّين ممّن يستثمرون قصص حياتهم، وهم يتكلمون في الغالب عمّا رأوه في معاناة الآخرين. وفي المحصّلة، فإنّ الفلسطينيّين ليسوا هم من أطلق النار على الباتاكلان.
وحتّى نهاية عقد التسعينيات، انحدر أغلب الجهاديّين العالميّين من الشرق الأوسط وحاربوا في أفغانستان قبل سقوط نظامها الشيوعيّ عام 1992. وبعد ذلك عادوا إلى أوطانهم للانخراط في الجهاد، أو تبنّوا القضيّة في بلدان أخرى. هؤلاء كانوا أوّل من ركب موجة الهجمات «المعولمة» (المحاولة الأولى لاستهداف مركز التجارة العالميّ في نيويورك عام 1993، ومهاجمة السفارات الأميركيّة في شرق أفريقيا عام 1998 وتفجير المدمرة البحريّة الأميركيّة كول عام 2000).
وقد أشرف على هذا الجيل الأوّل من الجهاديّين رجال أمثال بن لادن ورمزي يوسف وخالد الشيخ محمّد، لكن بداية من عام 1995، بدأ صنف جديد في الظهور يعرف في الغرب باسم «الإرهابيّون المحلّيون».

* مقتطفات من كتاب أوليفيه روا، الصادر بالفرنسية بعنوان: الجهاد والموت | Le djihad et la mort

■ ترجمة: حبيب الحاج سالم