زار عازف البيانو الشاب سيمون غريشي (1985 ــ الصورة) بلده الأم لبنان أكثر من مرّة لإحياء أمسيةٍ كلاسيكية، في عزفٍ منفرد أو إلى جانب الأوركسترا الوطنية. المؤسف في بلدنا أنّنا نبالغ في تقدير الشخصيات الفنية (وبالأخص تلك التي تحمل أصولاً لبنانية) لدرجة إيذائها بدلاً من خدمة رسالتها ومسيرتها. معظم وسائل الإعلام (بعد الأقارب طبعاً!)، تستنزف قاموس العظمة في صفّ الكلام الذي يضع الموصوف أمام احتمالَين: إمّا أن يصدّق هذا الكلام فيفقد دوافع التطوّر في مهنته (وهذه جريمة موصوفة بحقّه وبحقّ المجتمع)، وإمّا أن يعتبر في سرّه أنّ «هؤلاء» لا يُعَوَّل على رأيهم، فهُم إمّا عاطفيون فوق المعدّل المسموح به، أو يجهلون ما يتكلّمون به، أو منافقون!
مناسبة الحديث عن غريشي اليوم هي التطوّر الإيجابي المهمّ الذي طرأ على مسيرته الفنية. فالعازف اللبناني ــ المكسيكي ــ الفرنسي الذي كان مغموراً إلاّ في الأوساط المهتمّة جداً بالموسيقى الكلاسيكية حتى الأمس القريب، سيبلغ من الشهرة ما قد يؤذيه إن تضافر الأقارب والإعلام (المحلّي) على إنهاكه مديحاً! الرجل عازف بارع، يميل إلى الريبرتوار الرومنطيقي (ليسْت، بيتهوفن…)، يعتمد أسلوباً عصرياً غير جامدٍ في تقديم نفسه، مع بعض الملامح التجارية غير المستحبّة في نتاجه المصوَّر (دخانٌ حول البيانو!)، رصيده في التسجيل محدود نسبياً (أسطوانتان)، لكنه لفت انتباه الناشر الألماني العريق «دويتشيه غراموفون»، فوقّع معه عقداً لثلاث سنوات، بدأت ثماره بالظهور مع ألبوم أوّل حمل عنوان Heritages (إرث)، حوى مقطوعات من أميركا اللاتينية (وأخرى من وَحْيها لمؤلفين أوروبيين)، معظمها مغمور وواحدة منها حملت توقيع غريشي في إعدادَين (واحد للبيانو وواحد للبيانو والإيقاعات). كان من المفترض أن نتناول هذا الخبر منذ بضعة أسابيع لأهمّيته المعنوية أقلّه. إذ، سبق أن سجّل موسيقيون لبنانيون تحت «اللوغو الأصفر» في السابق (عازف الفلوت وسام بستاني على سبيل المثال، لكنّ التسجيل ليس باسمه، بل هو تحية للمخرج السوفياتي أندريه تاركوفسكي، كانت لبستاني مشاركة فيه)، لكن ما من لبناني (أو ربما عربي، لكننا لسنا متأكدين مئة في المئة) حظي بـ «شرف» العقد الحصري مع هذا الناشر من قبل. هكذا، فضّلنا التريّث في انتظار أمر من إثنين: الحصول على الأسطوانة وتناول المسألة من كل جوانبها، بما فيها النقد الموسيقي لأداء غريشي، أو انتظار نقد محترم من جهةٍ موثوقة (مجلة متخصّصة) وتتمتّع بالحد الأدنى من التجرّد (مجلّة متخصّصة… وأجنبية). فعملياً وعلمياً، لا توقيع عقد مع «دويتشيه غراموفون» ولا إصدار تسجيل أوّل عنده يعني شيئاً. الأداء الناجح في الموسيقى الكلاسيكية مسألة غير مكفولة، حتى لو أتت موقَّعة من أساطير كبيرة، فكيف بالأسماء الصاعدة. إذاً، حصل الأمر الثاني، حيث تناولت مجلّة «ديابازون» الفرنسية الجدّية إصدار سيمون غريشي في عددها الصادر هذا الشهر (ص. 107)، ومنحه ناقدها اللامع ألان لومْبَش تقديراً بمستوى «5 ديابازون» (أي Superbe أو «رائع» كما تصف المجلّة هذا المستوى في عُرْف تقديراتها)، وهو أعلى تقدير قبل الـ «ديابازون الذهبي» (أي Exceptionnel أو استثنائي).
الآن، بعد كل ما تقدّم، بات بالإمكان وصف غريشي بدقّة: إنه عازف بيانو ماهر، استطاع انتزاع عقد من رأس هرم ناشري الموسيقى الكلاسيكية في العالم وأصدر أسطوانة Heritages حيث يبدو أداؤه فيها رائعاً (على ذمّة ألان لومبَش). أين القدح والذمّ في هذا الكلام؟ أين الإجحاف؟ إنه ــ على العكس تماماً ــ رأيٌ شديد الإيجابية، لكن الفارق الوحيد بينه وبين المديح المبالغ فيه أنّه تشجيعيّ ودقيق في الوقت عينه، علميٌ قدر المستطاع، رغم الحفاظ على الحسّ الوطني بحدوده الطبيعية، من خلال تكريس مساحة للكلام لا نعطيها لعازفين أجانب بمستواه أو أهمّ منه بكثير أحياناً.