اعتزلت إغراء (1942) السينما منذ تسعينيات القرن المنصرم، إلا أن صورتها في ذاكرة السينما السورية لم تغب يوماً. كان المخرج الراحل عمر أميرلاي (1944 ــ 2011) آخر من سعى لاستعادة سيرة هذه الأيقونة في شريط وثائقي يؤرخ الجانب الخفي من حياتها. لكن غيابه المباغت طوى المشروع.
لا شك في أنّ صاحب «الطوفان» كان لديه ما يقوله وما لا نعرفه أو ما لم ننتبه إليه خارج صورة إغراء كممثلة بجسد شهواني على الدوام، أقرب ما يكون إلى البورنو غرافي. ذلك أن معظم أفلامها تعمل في هذه المنطقة، على وجه التحديد، من دون حفريات تخصّ الجسد المقموع، أو مواجهة التابو في مجتمع مغلق، فهي ترى أن جرعة الإغواء ضرورية لردم المسافة بين الشاشة وشباك التذاكر في المقام الأول، أكثر منها قراءة سيكولوجية لشهوات ذكورية مكبوتة تحققها حكاية غريزية مسليّة لا أكثر، ضمن معادلة لم تحد عنها في فهمها للحكاية السينمائية التي ينبغي أن تتوافر فيها ثلاثة عناصر، وفقاً لقناعتها هي «البوسة/ المايوه/ الرقص». هناك إذاً، مسافة بلاغية بين المعنى الشعبي لكلمة «البوسة» والمعنى الجمالي للقبلة لجهة الحسيّة المباشرة وعمل الغريزة بصرف النظر عن سياقها الدرامي في الشريط، وصولاً إلى جرعة أكبر تتعلق بخريطة المايوه أولاً، وهزّ الأرداف ثانياً كتعبير صارخ عن الرغبة.
ربما التقطت نهاد علاء الدين ــ اسمها الأصلي ــ هذه الحكمة من تحية كاريوكا أول من علمها فن الرقص وجسارة تحدي الكاميرا. لكنها توقفت هنا، عند منطقة الإغواء البرّاني، ذلك الذي يتيح المتعة العابرة، من دون أن يترك علامة دامغة، كما لدى تحية كاريوكا نفسها، أو هند رستم كأيقونتين ناريتين. من بين نحو 40 فيلماً في سجلّها السينمائي، بالكاد نتوقف عند فيلمين أو ثلاثة تحمل مخزوناً جمالياً وفكرياً معقولاً. نقصد تلك التي حملت تواقيع مخرجين مهمومين بسينما مختلفة. بالطبع، سيكون «الفهد» (1972) في مقدمة هذه الأفلام، نظراً إلى جديّة الطرح واختلاف المنهج، خصوصاً أنه يحمل توقيع مخرج بارع مثل نبيل المالح (1936 ـــ 2016). بالنسبة إلى الجمهور العريض، فإنّ «الفهد» هو ذلك الفيلم الذي تظهر فيه إغراء عارية تماماً بصرف النظر عن المقاصد السردية الأخرى، أو جماليات الأبيض والأسود. تلك الثواني الخاطفة، ستخلّد الفيلم أكثر من حكاية البطل الشعبي «بوعلي شاهين» (أديب قدورة) ومقاومته الإقطاع والدرك والظلم. ما يحسب لإغراء شجاعتها في الموافقة على هذه اللقطة غير المسبوقة في السينما السورية، من دون تردّد. وقد برّرت موافقتها بقولها حينذاك «أثناء تصوير المشهد، شعرت بأنّني انتحارية تفجّر لغماً في نفسها، وقلت لنفسي لا بأس فليكن جسدي جسراً تعبر عليه السينما السورية، وأنا لست آسفة ولا نادمة على ما أقدمت عليه، ولا يتوقع أحد مني أن أتقدم بعريضة ألتمس فيها حكماً بالبراءة الشخصية وشهادة حسن سلوك». لكن قيم حقبة السبعينيات المنفتحة، ستندحر إلى الخلف أمام موجة العفّة الطارئة التي ألقت بظلالها على المنطقة بتأثير حقبة النفط، فيما استمرت إغراء كماركة مسجّلة وحصرية في تقديم أفلام متفاوتة الأهمية، من دون أن تتخلى عن مثلث (البوسة والمايوه والرقص)، وإن في سينمات الشوارع الخلفيّة، ولجمهور من طراز محدّد، اعتاد على صورة ثابتة لنجمته المفضّلة، إذ نادراً ما تخلو ملصقات أفلامها من صورة لها بالمايوه، أو في عناق حميم مع شريكها في الفيلم، بالإضافة إلى عناوين برّاقة تجذب أغرار السينما ومتسكعيها مثل «عاريات بلا خطيئة»، و«أموت مرتين وأحبك»، و«فتيات حائرات»، و«راقصة على الجراح». لكن هذه الأفلام ستواجه مقص الرقيب في معظمها، وستخوض إغراء معارك طاحنة في الحصول على خاتم «يسمح بعرضه»، إلى أن انتهت معظم هذه الأفلام إلى سينمات «العرض المتواصل» من دون رقابة تُذكر.

السبعينيات المنفتحة
ستندحر أمام موجة العفّة
التي جلبتها حقبة النفط

في فيلمها «الصحفية الحسناء»، تدخل إلى غرفتها مرهقة، فتخلع سترتها ثم تستلقي على السرير بثيابها. لكن أحد المشاهدين احتج بصوتٍ عال على هذه المؤامرة، فهو انتظر نحو دقيقة كي تكمل خلع ثيابها أو تتجه إلى الحمّام حيث مزيد من الرغوة والمناطق المكشوفة من الجسد، كما كان يتوقّع. وحين فقد الأمل، صرخ قائلاً «اشلحي وليه». هذا الاحتجاج الغاضب أتى كرد فعل صريح على ممثلة لطالما استجابت لرغبات جمهورها لا خذلانه، في جرعات حسيّة عالية. وتالياً فإن أفلامها لم تنحدر إلى الدرك السفلي للسينما على الدوام، إنما تحمل في بعض سيناريوهاتها حبكة اجتماعية ما، عن أنثى غُرّر بها، أو امرأة محزونة اضطرتها ظروفها القاسية أن تعمل في ملهى ليلي، أو عاشقة خذلها رجل أعمال محتال، وتالياً لا بد من استعمال عدسة مقربة في غرفة النوم أو المسبح أو الملهى كأماكن أساسية في عمارة الفيلم، لتصب لاحقاً في شباك التذاكر.
هكذا احتضرت هذه السينما تحت ضربات معاول الأفلام الطليعية التي تنتجها المؤسسة العامة للسينما، برافعة ايديولوجية وورشة نقدية نخبوية تمكّنت من إقصاء السينما الشعبية «التجارية» بذرائع فنيّة. لكن «السينما البديلة» لم تتمكن من استقطاب جمهور عريض إلا بحفنة أفلام وحسب، من دون أن تجرؤ على تمرير مشهد قبلة، كنوع من الأعراف المضادة، مما أدى إلى احتضار الصالات السينمائية وإغلاق معظمها. لكن أصحاب هذه الصالات ما زالوا يحتفظون في واجهات سينماتهم ببعض ملصقات أفلام إغراء كطُعم شهيّ لمشاهدي العروض المتواصلة. يروي المخرج الراحل نبيل المالح أن مشهد التعرّي في فيلمه «الفهد» كان يستقطب جمهوراً محدّداً، في عروضه المحليّة اللاحقة، بتوقيت يتوافق مع عرض هذه اللقطة تماماً، لكن الرقابة الرسمية نفسها ستمنع هذه اللقطة بعد سنوات على عرض الفيلم، بضغط طبقة سياسية وحزبية صاعدة. وإذا بمغامرة إغراء تذهب هدراً وبالمجان، كضحية لسلوكيات مجتمع لم يعد يحتمل مأثرة من هذا النوع. ربما علينا أن نستعيد ما كتبته إغراء على غلاف كتابها الشعري اليتيم «يذبحونك من عنقي» كتوصيف دقيق لسيرتها المثيرة والاستثنائية. هكذا لفظت السينما السورية صورة «مارلين مونرو» سمراء، من أرشيفها، لتنتحر في عزلتها ببطء، من دون أن تكرّمها مرّة واحدة!