حسناً، ثمّة قراءتان لـ «آخر أيّام المدينة» (2016 ـــ 118 د.) للمصري تامر السعيد (1972). أولى نقدية اعتيادية، بتحليل مشاهد وشخوص ومعلومات وأرقام. ثانية تتجاوزها إلى ما بعد ذلك. تنبش نحو الأعمق، والمغاير، والمتفرّد، كالشريط نفسه. ذلك أنّ الفيلم يفرض روحه ومتنه على الوعي والمدارك.
يتغلغل في النخاع الشوكي ونقيّ العظام. يأخذ متلقّيه في رحلة فيّاضة بالشجن والحنين والارتعاش والشحن العاطفي والثوري. شريط حميمي، مخاتل، بالغ الحساسية، مجبول بالحب والصداقة وعنهما، معجون بالحزن المرافق لرصد الانهيارات المريعة والتآكل الجمعي، مواكب لتحوّل مصيري في سايكولوجيا شعب ومسار بلد.
منذ انطلاقه من قسم «المنتدى» في البرليناله 2016، لفت «آخر أيّام المدينة» الأنظار. سيطر على الألباب والقلوب. انتزع جائزة «كاليغاري»، لتكرّ سبحة التجوال (أكثر من 70 مهرجاناً دولياً) والجوائز والتنويهات (الجائزة الكبرى، وجائزة لجنة تحكيم الشباب من «مهرجان نانت للقارات الثلاث» 2016، الجائزة الكبرى من «مهرجان نيوهورايزن السينمائي الدولي» 2016 في بولندا، أفضل مخرج في «مهرجان بوينس آيرس السينمائي الدولي» 2016، أفضل فيلم في «مهرجان سان فرانسيسكو للفيلم العربي» 2016...). هكذا، أصبح أكثر فيلم مصريّ يحقّق حضوراً خارج بلده، ويُمنَع داخله، مع تراجع المهرجانات المحليّة عن برمجته.
للوهلة الأولى، يبدو شريطاً مفكّكاً، يلهث خلف نفسه. سرد حائر، مثقل بالتفرّعات (سيناريو تامر السعيد ورشا سلطي). لدينا المخرج الشاب «خالد» (خالد عبد الله) المنهك بتيمة البحث: عن فيلمه، عن شقّة جديدة، عن عبق مدينة يشهد انهيارها قبل «ثورة يناير»، عن حبيبة (ليلى سامي) تنشد الكينونة والحريّة الفرديّة والحب المعافى من آلاف القيود، عن نوستالجيا مخرجة مسرحيّة هاربة من الإسكندريّة (حنان يوسف)، عن راحة أمّ (زينب مصطفى) تحتضر في «مشفى السلام»، عن حقيقة عواصم (القاهرة وبيروت وبغداد) تتشارك الحال والمصير، رغم اختلاف النكهة واللبوس. ولكن، من قال إنّ درب الأسئلة الكبيرة مفروش بالورود والسرد التقليدي؟ قراءة «الآن» و«هنا» تفرض بنيةً من هذا النّوع، تحاول الإحاطة بكلّ شيء. هذا مأخذ في العادة، إلا أنّه ميزة هنا. نعم، بات التشظّي الذاتي والجمعي، وعشوائية العمران والنفوس، جزءاً أساساً من بطانة المدينة. كيف نروي الحقيقة عنها؟ في واقع الاضمحلال، وتغوّل التخلّف والتطرّف والجهل والقمع والاستبداد، ما طبيعة مشاعرنا تجاهها؟ خالد يتوسّل الأجوبة «وسط البلد»، كشاهد على العصر. يستمع إلى نقاشات أصدقائه المطوّلة حول عواصمهم.

تامر السعيد امتداد للجيل الأوّل من «السينما المصريّة الجديدة - المستقلّة» شغلاً ومعايشةً


«باسم» (باسم فيّاض) من بيروت، و«حسن» (حيدر الحلو) من بغداد، وطارق (باسم حجر) من بغداد ويعيش في برلين، كلّهم يتفقون على تزويده بفيديوهات من مدنهم، لإكمال فيلم عصيّ على ذلك. هو أنا أخرى alter ego لتامر ذاته. لا يمكن تحديد أين يبدأ أحدهما، ومتى ينتهي الآخر. تتداعى القاهرة أمام عينيه. تشيخ بفعل العسف والإهمال، لا القدم والتاريخ. الراديو يبثّ أخباراً عن إنجازات مبارك، مقابل تهتّك فظيع على كلّ المستويات. مظاهرات «كفاية» أحد مؤشّرات الانفجار القادم. حتمية الثورة آتية من احتقان النفوس، ونفاد الصبر. فرادة «آخر أيّام المدينة» في قبضه على هذه اللحظة النادرة، بأكثر حالاتها صدقاً وعفويةً، متجاوراً النبوءة المعروفة في «هي فوضى..؟» (2007) ليوسف شاهين وخالد يوسف، وتحسّر «زكي الدسوقي» (عادل إمام) على ماضٍ أنيق في «عمارة يعقوبيان» (2006) لمروان حامد. في الوقت نفسه، لم يقرن نفسه بغليان ميدان التحرير وما بعده، كما في عناوين لإبراهيم البطوط وأحمد عبد الله ويسري نصر الله وجيهان نجيم... مفضّلاً الغوص في السوسيولوجي المصري، وبوصلة القاع. لذا، يبقى صالحاً لأيّ زمن «استقرار» ظاهري بين الثورات والاحتجاجات الشعبيّة. يظلّ طازجاً، قابلاً للاستعادة في أيّ وقت. هكذا، يمكن فهم بعض أسباب التعنّت الرقابي المستمر.
بالعودة إلى خالد، يبدو السينمائي/ المثقف العربيّ صامتاً، عاجزاً عن فعل أو تغيير شيء، بل إنّه لا يبدي ميلاً لذلك، راضخاً لشيطان المراقبة والتوثيق. هل تكتفي العدسة بالتسجيل أم أنّ على صاحبها التدخّل/ الفعل لدى ضرب متظاهر أو تعنيف زوجة أمام عينيه؟ غير أنّه «يقاوم» بالإصرار على إنجاز الفيلم التائه. «يناضل» بحفظ ما تبقّى من مدينته الأثيرة، فيما العالم يتسرّب من بين يديه. «يكافح» بالصمود في وجه الفقد والقسوة، متشبّثاً بما تبقّى من حنان. ألسنا كلّنا نحبّ ونمقت مدننا في آن؟ ملهمة، خاطفة، دقيقة، حرجة كبهلوان يسير على حبل رفيع، تلك الأسلوبيّة التي يقترحها تامر السعيد في باكورته. يتداخل الروائي والتسجيلي حتى امّحاء الفاصل بينهما. حتى هو بات غير قادر على تمييز الحقيقة عن الخيال، والتلقائي المتفاعل مع المحيط عن المحضّر مسبقاً. هذه أعلى درجات التخييل والتشخيص في السينما. بلوغ العصب مرهق إلى أقصى حد. الابتكار شاق آكل للروح. صفاء يتطلّب دأباً نادراً في الصناعة. لفهم مزيج فريد كهذا، لا بدّ من العودة إلى تاريخ تامر السعيد ذاته. درس الصحافة في جامعة القاهرة، والإخراج السينمائي في المعهد العالي للسينما. تخرّج عام 1998 مع مرتبة الشرف، مشبعاً بحصيلة أكاديميّة، تجمع بين البحث والروي والتوثيق. عمل كمخرج مساعد مع أسماء مثل سمير سيف في «معالي الوزير» (2002)، وإبراهيم البطوط في «إيثاكي» (2005). تلوّن بين إخراج الإعلانات والتدريس. جرّب حقل الإنتاج في عدد من الشركات. بين عامي ١٩٩٤ - ٢٠٠٤، كتب وأنتج وأخرج عناوين قصيرة ووثائقية، منها «يوم الاثنين» (٢٠٠٤، 8 د. - جائزة لجنة التحكيم الخاصة من «مهرجان الساقية للأفلام القصيرة» في القاهرة 2005، أفضل روائي قصير في «المهرجان القومي للسينما المصرية» 2005، الصقر الفضي (مناصفةً) من «مهرجان روتردام للفيلم العربي» 2005...) عن تجدّد الشغف في علاقة فاترة بين زوجين (حنان يوسف وبطرس غالي)، و«غير خدوني» (٢٠٠٤، 53 د. - أفضل تسجيلي طويل، وجائزة «صلاح التهامي» من لجنة تحكيم الأفلام التسجيلية العربية المنبثقة عن اتحاد السينمائيين التسجيليين في مصر، في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيليّة والقصيرة 2005) عن الاعتقال السياسي في المغرب خلال السبعينيات. هو امتداد للجيل الأوّل من «السينما المصريّة الجديدة - المستقلّة» شغلاً ومعايشةً. شارك في كتابة «عين شمس» (٢٠٠٨) مع إبراهيم البطوط، ورواه بصوته. ظهر في «هليوبوليس» (2009) لأحمد عبد الله. في عام 2007، أسّس «زيرو برودكشن» للأفلام المستقلة. أطلق مع آخرين «سيماتك – مركز الفيلم البديل» في القاهرة. بعد عام، باشر التحضير لباكورته تحت اسم «فيلم طويل عن الحزن». استمرّ التصوير بين عامي 2009 – 2010، ليصبح «آخر أيّام المدينة» على اعتبار أنّه عنوان أكثر راحةً للمشاهد، كما أنّ فيه شيئاً من فصل الشتاء. بدأ التوليف عام 2012 (محمد عبد الجواد، فارتان أفاكيان، باربارا بوسيه)، إذ لم يكن الابتعاد عن الحدث، والتسمّر خلف طاولة المونتاج وارداً عام الثورة. بعد 25 نسخة تقريباً، أوّلها بطول 5 ساعات و40 دقيقة، توصّل السعيد وفريقه إلى الصيغة النهائية.
في التقنيّ، لا بدّ من الإشادة بتكامل الفريق. سينماتوغرافيا باسم فيّاض ذات اللون الأصفر، ما يحيل على الغروب والأفول حيناً، والاختناق حيناً آخر. حركة الكاميرا داخل جغرافيا، تعدّ كنز صور وكوادر. الاقتراب من الوجوه، بما يحقق زخماً شاعريّاً رفيعاً. التقاط الصوت وسط ضجيج القاهرة (صوت فكتور بريص، مكساج ميكائيل بار). الاستماع إلى الصمت ضمن صخبها (موسيقى اميلي لوغراند، فكتور مويس). الحصيلة فيلم من عيار الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة. تاج السينما المصريّة الجديدة، وتكليل لبعض إنجازاتها، مثل «الخروج للنهار» (2012) لهالة لطفي، و«باب الوداع» (2014) لكريم حنفي، و«أخضر يابس» (2016) لمحمد حمّاد. مفصل شديد الأهميّة في نقلها إلى سماوات أعلى من الجمال والصفاء.

* «آخر أيام المدينة»: «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080