عام 2009، كتب رشيد غصين رسالة خطية إلى قائم مقام مرجعيون، يبلغه عن تعديات التملك العشوائي التي تطال مجرى مياه نبع وادي الحجير في جنوب لبنان. الرسالة الكاملة معلّقة داخل إطار أبيض في معرض أحمد غصين «الأرض لمن يحرّرها» في «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت). أما المرسل، فهو والد الفنان والسينمائي اللبناني الذي دفعته الرسالة لإعادة اكتشاف مفهوم الأرض وطبقاتها وحدود العام والخاص، على خلفية تاريخية واقتصادية واجتماعية متشابكة.
عبر وسائط متعدّدة مثل الفيديو والفوتوغرافيا والنحت ورسم الخرائط، يقدّم غصين تصوّرات مختلفة للأرض، تلامس دلالات الانتماء والهوية. الدافع الأول للمعرض كان غياب مسح وتحرير ملكية الأراضي وتحديد تلك المشاعية والخاصة في بعض المناطق اللبنانية. أبرز هذه المناطق هو الجنوب اللبناني الذي يتخذه غصين نموذجاً لمعرضه لما يحمله من رمزيات تاريخية للمقاومة وللدفاع عن الأرض، إلى جانب تبدلاته الاجتماعية مع مرور الزمن. يغيب مسح الأراضي عن الجنوب (باستثناء بلدات قليلة)، مما أتاح للناس تقاسم الأراضي وفق شروط بسيطة تقضي بقبول الجيران الذين تقع أرضهم على حدود الأرض امتلاكها، إلى جانب زراعة هذه الأرض لمدة عشر سنوات متتالية. يجري هذا التملّك وسط غياب الوثائق والمستندات عن خزائن الدولة، وهذا ما يعزّز التباس مفهوم الملكية الخاصة والعامة غير المحددة أصلاً. نستمع في المعرض إلى تسجيل صوتي لمساح أراض استدعاه غصين ليمسح الأرض. ويقرّ بقدرته على إمداده بخارطة مساحية من دون ربطها بالنقاط الرسمية لخارطة لبنان. وللسخرية، استطاع غصين الحصول على قطعة أرض بحجم «غاليري المرفأ» لصاحبتها جمانة عسيلي. الوثيقة التي تحدد الأرض صارت بحوزته. نراها معلّقة على أحد جدران المعرض، بعدما رسم غصين شكل الأرض بالألوان المائية. يرى غصين الأرض في الجنوب اللبناني من أماكن مختلفة، من السماء ومن تحت الأرض وبعيون مزارعيها. هناك صور من الجنوب توثق للطريقة العبثية التي تعلّم بها حدود الأراضي، مقابل صور هائمة لمنطقة القنطرة التقطها والد غصين بطلب منه.

يضم المعرض خريطة الظل الوحيدة للبنان أنجزها مهندس روسي في الخمسينيات

يحتفظ غصين بالجانب الحميمي والشاعري لبحثه العلمي والتوثيقي المتشعّب. نشاهد فيديو مصوّراً من الأعلى للأرض، تقترب فيه المشاهد من التراب بما يشبه اللمس، مستحضراً العلاقة الحميمية مع الأرض لدى المزارعين. مدفوعاً بأسئلة الانتماء ومعنى الفضاء العام، وملكية الأراضي، يذهب غصين باختباره حتى النهاية، مخلخلاً معنى الأرض نفسها ورمزياتها وتاريخها، والقيم الوطنية التي ارتبطت بها. لم تفلت هذه الأراضي من قبضة العائلات الإقطاعية. كان أهالي الجنوب يلزّمون أراضيهم لبكوات آل الأسعد مقابل دفع الضرائب للعثمانيين. من خلفية يسارية، يفخر والد غصين بطرد العائلات الإقطاعية من الأرض في ستينيات القرن الماضي. كان ذلك قبل احتلال العدو الإسرائيلي عام 1978 وانسحاب قواته عام 2000 من الجنوب الذي شهد، على مدى سنوات، معارك مع المقاومة الوطنية والمقاومة الإسلامية.
من قريته القنيطرة، تبدأ الرحلة لتنتهي في أقبية أرشيف مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني. رحلة تتقاطع مع التحوّلات والتواريخ الكبرى في البلاد، تأسيس دولة لبنان الحديث مطلع الستينيات، والاحتلالين العثماني والفرنسي وصولاً إلى تحرير الجنوب عام 2000، وحرب تموز عام 2006 التي وقعت خلالها معارك حاسمة في وادي الحجير. لم تقس الدولة اللبنانية مستوى ارتفاع سطح البحر منذ الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي. كانت قوات الانتداب تحدد الارتفاع عبر قطع حديدية تنطلق من مرفأ بيروت، تحتسب كل واحدة منها 500 متر مربع. لم يستطع غصين العثور على الكثير من هذه الحدائد، لكنه صب عليها 20 حديدة، أي ما يساوي ارتفاع بلدته القنيطرة عن سطح البحر، ووضعها في المعرض بعدما حفر عليها عبارة «سر من أسرار الدولة». صاحب «أبي ما زال شيوعياً» (2012)، الذي استنطق التاريخ الجماعي للبنان من خلال شرائط مسجلة كانت ترسلها والدته إلى والده المغترب، لا يزال متمسّكاً بتاريخه العائلي. جانب لا يغيب عن المعرض رغم المنهجية العلمية والتوثيقية التي قادت بحثه. يقوم غصين بملء فراغ الدولة، بمحاولة للإجابة على رسالة والده، وإعطاء شكل واضح للأرض ولحدودها وطبيعتها وبياناتها الجغرافية. يعرض آخر صورتين جويتين (ارتفاع 22 ألف متر) لمنطقة وادي الحجير وسهل الميدنة التي كانت قد التقطت عام 1975، عثر عليهما في أرشيف دائرة الجغرافيا في الجيش اللبناني.
في المقابل، ينقل إلى جدار الغاليري إحدى خرائط الساتلايت التي توزعها إسرائيل، وتظهر ما تحت أرض الجنوب اللبناني أي مواقع «حزب الله». يسائل غصين مفهوم تحرير الأرض، خصوصاً أن هوس إسرائيل فاق سطح الأرض، لينبش ما تحتها. يشتت المعرض أي معنى واضح وجازم للأرض. يتبدّل شكلها مع تبدّل النظم الاجتماعية والاقتصادية وتبدل علاقة الناس بالأرض منذ الإقطاع حتى اليوم الذي استطاع فيه الفلاحون وضع أيديهم عليها، رغم العشوائية التي يتم فيها ذلك، ورغم التسهيلات التي يقدمها غياب المستندات الرسمية، للعلائلات الإقطاعية للحصول على الأراضي مجدداً. في الغرفة الثانية في المعرض، يكمل غصين نبشه في الأرشيف، بينما يعيد إحياء مهنة الكارتوغراف التي لم تعد موجودة في البلاد، مع ظهور صور الساتلايت. نرى في الغرفة خريطة الظل الوحيدة للبنان التي أنجزها مهندس روسي في خمسينيات القرن الماضي. يقتطع غصين من الخريطة منطقة الجنوب ويظهرها بمفردها على الجدار، بصيغتها الأصلية أي قبل التحوّل الحتمي في شكلها. بجوار هذه الخريطة، هناك ثلاث علب برتقالية حاول فيها غصين رسم وحفر خريطة أوّلية لمنطقة وادي الحجير. بالتعاون مع الرسام رفيق مراد، لجأ الفنان إلى مادّة بلاستك أستات التي تعتبر وسيطاً قديماً، لرسم شكل الأرض وحيثياتها (أنهار، طرقات، جبال...) هناك، لكن وفق المعلومات الحديثة التي زوّدته بها صور الساتلايت. ضمن غرفة سوداء، يعرض فيديو «آخر كارتوغراف في الجمهورية» (16 د) الذي يبدو أقرب إلى بورتريه لأديب خالد الذي رسم معظم خرائط لبنان بطريقة الكارتوغراف. في الشريط، يبقى وجه رسام الخرائط الذي صرف من مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش الللبناني عام 2006، تحت الظل، وهو يرسم الخرائط مجدداً بتقنية الكارتوغراف. الأرض تحررت عام 2000، والجنوبيون لا يتوقفون عن تحرير أراض خاصة كل يوم، بينما ترفض الدولة تحرير أراضي المنطقة على الخرائط. يستحضر عنوان المعرض «الأرض لمن يحررها» معاني مختلفة لفعل التحرير. واستناداً إليه، يقترح غصين 7 حركات متتالية لتحرير الأرض. داخل غرفة صغيرة، يضع بورتريهاً على سبع طبقات زجاجية، تظهر حركة والده المتتالية وهو يحرث الأرض... والده الذي لا يزال يعيد قراءة «إلى الفلاحين الفقراء، النضال الطبقي في الريف» لفلاديمير لينين.

* «الأرض لمن يحرّرها» لأحمد غصين: حتى 31 آب (أغسطس) ــ «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت). للاستعلام :01/571636