التطويع السياسي للاتحاد العمالي العام والنقابات لا يفسر وحده قصور العمال والتنظيمات النقابية عن تشكيل حركة نقابية في لبنان، والأزمة في جوهرها ليست أيضاً أزمة هياكل وبنى نقابية، بل تتعلق بمسار ترييع الاقتصاد وإرساء العمل اللانظامي وتحييد العمال عن عملية التراكم الرأسمالي في علاقات تناقض بسبب الاختلاف في الطبيعة التعاقدية معهم؛ فالكثير من التحركات النقابية والعمالية الأخيرة كانت تدافع عن الحصة المقتطعة من الريع الذي تمثله أكثر من دفاعها عن مصالح العمال بشكل عام، وطبيعة المطلب مرتبطة بموقع صاحبه في المنظومة الزبائنية الريعية، وليس بالضرورة بالقوة التفاوضية أو إنتاجية العمل.
كذلك فإنّ التجربة في مرحلة ما بعد الطائف أثبتت فشل الرهان على العمل والتنظيم النقابيين كأدوات لنقل الصراع من بعده الطائفي إلى بعده الاجتماعي. وبذلك تكتسب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد من خلال انتمائهم إلى جماعة طائفية، إن كان ذلك عبر حصص في التوظيف أو النفاذ إلى التعليم والاستشفاء وغيرهما.
هذه أبرز الخلاصات التي خرج بها تقرير بحثي بعنوان «نقابات وعمال... بلا حركة» أعدّه الباحثون اللبنانيون نبيل عبدو وفرح قبيسي وربيع فخري، في إطار مشروع بحثي سيطلقه معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية بالشراكة مع معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأميركية في بيروت، عن «الحركة العمالية والنقابية والبحث عن العدالة الاجتماعية» في 7 بلدان عربية هي: لبنان، مصر، الأردن، فلسطين المحتلة، تونس، الجزائر والبحرين.

الحركة النقابية العربية
ليست معزولة عن
سياسات العولمة

المشروع البحثي العربي تضمن أيضاً قراءة نقدية للتقارير البحثية السبعة أعدّها الخبير النقابي الدولي غسان صليبي، الذي يشير إلى أنّ «البحث عن العدالة الاجتماعية، وهو عنوان المشروع، بقي ناقصاً، لكونه لم يقارب السؤال: هل لا تزال الحركة العمالية والنقابية تبحث عن العدالة الاجتماعية وعن معنى ملموس لها وعن طريق يؤدي إليها؟».
يقول: «إنّ بحث لبنان مثلاً درس حركة النقابات في سياق الاقتصاد السياسي بهدف فهم مدى فعالية النقابات في نضالها لتحقيق العدالة الاجتماعية، أي إن البحث اقتصر على استعراض بعض مؤشرات اللاعدالة الاجتماعية في البلد، مثل السياسة الضريبية وتوزيع الدخل بين أجور العمال وأرباح أصحاب العمل وتركز الثروة الاجتماعية، وكأن الباحثين تركوا للقارئ مسألة استنتاج عدم التقدم باتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال عجز معظم الحركات النقابية عن تحقيق مطالبها».
وأمام ظاهرة تبعية الاتحادات العامة النقابية للسلطة السياسية في معظم البلدان العربية (باستثناء تونس والمغرب والبحرين)، لم يجد صليبي أن التقارير البحثية، ولا سيما التقرير اللبناني، طرحت السؤال البحثي المفترض: كيف تنجح السلطة في بسط هيمنتها على الاتحاد العام من جهة، ولماذا يخضع العمال والنقابيون لهذه الهيمنة من جهة ثانية؟
لا تفصيل يذكر في بحث لبنان، بحسب صليبي، بشأن آليات الهيمنة أو دوافع الخضوع في أنظمة سياسية ــ اقتصادية تختلف جذرياً، لذا فهو يقترح أن تتجاوز المقاربة ثنائية التفسير التبسيطي "للعصا (الرقابة الأمنية) والجزرة (المنافع الاجتماعية التي يستفيد منها النقابيون وقيادات الدرجة الأولى وأعضاء في الاتحاد العام)، وذلك من خلال إعطاء أهمية متساوية لآليات الهيمنة والخضوع على حدّ سواء، والاستفادة من أبحاث الاقتصاد السياسي والمقاربة الفرويدية الماركسية التي تسعى إلى فهم الأسباب اللاواعية لدى العمال للقبول بواقع الاستغلال والخضوع للسلطات، إضافة إلى دراسة دور التنظيم النقابي في ترسيخ الهيمنة السياسية على الاتحادات العامة. يرى صليبي أنّه لا بد من الالتفات أكثر إلى الآليات المتشابكة السياسية والاقتصادية والإيديولوجية الطاغية في حالة لبنان التي تسهل هذه السيطرة.
ولكن صليبي نفسه لم يقدّم الأجوبة التي يطالب بها، معتبراً أنها مسؤولية الأبحاث، علماً بأن صليبي معروف بمقارباته "التنظيمية" لأزمة النقابات العمالية، وهذه المقاربات يبدو أن الباحثين اللبنانيين لم يأخذوا بها كمحدد حاسم في أزمة العمل النقابي.
لا تتعاطى القراءة النقدية مع الأبحاث كمشروع مكتمل يحتاج إلى استنتاجات عامة بغرض إقفاله، بل تجهد لاستخلاص أسئلة بحثية تغذي أبحاثاً مستقبلية في إطار المشروع نفسه أو في إطار مشاريع أخرى، ولا سيما لجهة دينامية علاقة الأعضاء بنقابتهم والتعمق في البحث حول مشاركة هؤلاء في العمل النقابي وليس اقتصار البحث على دراسة الانتساب، والأخذ بعين الاعتبار أنّ الحركة النقابية العربية لا تدرس في ظل فراغ عالمي، بل في إطار هيمنة العولمة والسياسات الاقتصادية العالمية، لا سيما سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
الباحث السياسي فواز طرابلسي الذي أدار جلسة نقاشية حول المشروع، أول من أمس، رأى هو الآخر ضرورة أن لا يتوقف البحث في الحركة النقابية في العالم العربي عند هذا الحد، فلا تزال هناك أسئلة كثيرة تحتاج إلى تعميق، منها القبض على دور النقابات والطبقة العاملة والعمال في ذروة تطبيق مشروع النيوليبرالية وانسحاب الدولة من الخدمات الاجتماعية، باعتبار أنّ الابحاث لم تقل لنا ماذا تفعل النقابات وماذا يجب أن تفعل وكيف تعاطت مع البطالة ومع العمالة الوافدة، وما هي الإنجازات التي حققتها، وماذا يعني إنشاء نقابات مستقلة (النقابات التي ترافقت مع انتفاضات الربيع العربي) عن السلطة إذا لم تقدم رؤية جديدة للعمل النقابي؟