أحاولُ أن أتخيّلني أمشي بين أرصفة شارع عماد الدين في العشرينيات. شابٌ يعتمر قبعةً كلاسيكية، ويُمسك في يديه تذاكر العرض القادم لنجمي الكوميديا نجيب الريحاني وعلي الكسار. وعلى غفلةٍ من الوقت، يفوتني العرض الجديد لـ «سلطانة الطرب» منيرة المهدية التي حشدت لفيفاً من المعجبين والمعجبات لا يُستهان بهم. هنا تُزيّن صور نجمات المسرح والغناء أغلفة المجلات والصُحف المطبوعة. لكن مهلاً لماذا يرتدين تلك الأزياء الرجالية؟ لقد اعتادت النجمات حينها أن يظهرن في هيئة الرجال إلى جانب تبادل الأدوار بين كل منهما. هكذا أصبحت نجمات المسارح والطرب في كل مكان. هؤلاء يمجدّون السلطانة منيرة المهدية، وآخرون يفضّلون الكروانة الجديدة التي نزحت من الريف إلى العاصمة لتصبح بين ليلة وضحاها كوكب الشرق أم كلثوم. أما هي، فقد أُحِيطتْ بهالتها الخاصة كسيدة ربما سقطت سهواً من أواخر القرن التاسع عشر. عُرفت بلقبها «مطربة القطرين» ولمع اسمها بين فحول المطربين والمطربات كنفحةٍ من ليالٍ وّلت. وببساطة أحببتُ «فتحية أحمد».

ناديتها بيني وبين نفسي «توحة» كما كان يغنّجها السميعة والمقربون. منذ أن اقترن اسمها بفرقة الريحاني خلال مسرحية «حمار وحلاوة» عام 1918، أصبحت من نجمات الفرقة حتى انضمت إلى فرقة «الكسار»، وأكملتْ المسيرة. ومن خلال انضمامها إلى الريحاني، حظيت بمكانة خاصة عند فنان الشعب سيد درويش وأطربتنا بألحانه.
كانت القاهرة تحاولُ أن تخرجَ من محنة الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). لم يكن أحدٌ يتخيّل فظائع الحرب، وويلاتها، وجراحها التي لا تبرأ. وجد العامة في الترفيه متنفساً يروّح عنهم. إنهم ما زالوا يذكرون ليالي الوصل في حضرة سادة الطرب عبده الحامولي، ومحمد عثمان، ويوسف المنيلاوي، وسيد الصفتي، وعبد الحي حلمي، ومحمد سالم الكبير، وسلامة حجازي وغيرهم. لم ينفصل الطرب والفن عن حياتهم اليومية. وبالرغم من أن النخبة لعبت دوراً كبيراً في تأطير إتاحته للمجال العام، إلا أن ديناميكية المسارح، وانتشار أجهزة الفونوغراف بين جماهير الطبقة الوسطى عقب الحرب، غيرا قواعد اللعبة. ها هي الطقاطيق تنتشر على كل لسان كالنار في الهشيم. ومطربتنا توقع عقودها الجديدة مع شركتي «أوديون» و«كولومبيا» بعد رحلة جاورت خمس سنوات في بلاد الشام. إنها تشدو بألحان أبي العلاء محمد، وأحمد صبري النجريدي، ومحمد القصبجي، وداود حسني، وصَفر علي وغيرهم. لطالما جذبني ذلك الصوتُ الرخيمُ الآسر. إنها تصعد بالنغمة الواحدة كمنْ يرفع شيئاً إلى أعلى رفٍ ممكن، ثم تهبطُ بها مرةً واحدة كمنْ يدحرجُ صخرةً من أعلى قمة جبل. كل شيء في القاهرة يتبدلُ مع نهاية العشرينيات، فقد ولد الاتحاد النسائي عام 1923، وأصدرت «روز اليوسف» أول مجلة غير نسائية عام 1925، وأنتجت عزيزة أمير أول فيلم روائي صامت عام 1927 إلى جانب تدريس السيدات للمواد العلمية في الجامعة عام 1929.
لكن يبدو أن كل ذلك الزخم لم يشفع لفتحية التي قررت الانزواء في بيتها، والتفرغ لتربية الأولاد حتى جاءت الثلاثينيات بحلوها ومُرها. انعقد مؤتمر الموسيقى العربية الأول عام 1932، ودعا إلى الحفاظ على الموسيقى الشرقية الأصيلة. لكن محاولات التجريب والتجديد عند مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهّاب لم تهدأ، وبدوره انطلق القصبجي في نسج قطعه اللحنية المُبهرة. ما زلت أشعر باللذة الطربيّة ذاتها كلّما استمعتُ إلى توحة تشدو «يا ريت زمانك وزماني يسمح ويرجع من تاني يا ريت». إنها واحدة من أشهر طقاطيق الثلاثينيات التي جذبت الصغير والكبير.

حاولت القاهرة
الخروج من محنة الحرب العالمية الأولى، فكان الترفيه متنفساً
كانت توحة تكدُّ في عملها بين الفرقة المسرحية الصغيرة التي أسستها، وأطلقت عليها «حديقة فتحية» كما كانت من بين أوليات المطربات اللواتي يدخلن الإذاعة المصرية عام 1934. في عام 1938 تذكرت توحة المرة الأولى أمام الميكروفون في مجلة «الراديو المصري» حيث قالت: «لقد عمدت إلى خلق الجو الفني الذي اعتدته بأن ألبست رجال التخت الملابس الرسمية، وبأن ارتديت ملابس السهرة، فلّما انطلقتُ في الغناء صوّرت لنفسي وجوه المستمعين وقد أقبلوا على الاستماع من حولي مرحبين، وفي هذا الجو أذعتُ للمرة الأولى. ولاحظت أن المذيع الذي كان معنا في الغرفة قد استخفه الطرب، فراح يحركُ قدميه يتتبع الوحدة ويتمشى مع النغم، فكانت هذه الحركة باعثة إلى نفسي يقيناً بأنني ملكتُ زمام نفسي وزمام الجمهور! وكان النجاح المنشود». نعم، كانت في قمة مجدها الفني أمام ميكرفون الإذاعة، ومع مرور الوقت جذبتها شاشة السينما كما جذبت آخرين من قبلها على رأسهم جميعاً المجدّد عبد الوهاب، وأميرة الطرب نادرة، و«كوكب الشرق» أم كلثوم. لقد تحوّلت الإذاعة المصرية الحكومية تدريجاً إلى حصن مهيب يضمُ نجوماً ونجماتٍ أثروا الحياة الفنية لفتراتٍ بعيدة. من هنا مرت نجمة السينما الأولى ليلى مراد، والصوت الكريستالي أسمهان، والموسيقار الشجيّ فريد الأطرش، وفارس الغناء التقليدي صالح عبد الحي، والبلبل المغرّد نجاة علي، وغيرهم. لكن يبدو أن صوت فتحية حفر في أذني بريقه الخاص، ورنته الشرقية العذبة. أليست هي من أطربتنا في فيلمي «عائدة» و«أحلام الشباب» عام 1942 من دون أن تظهر على الشاشة؟ وتألقت في أغنيات رياض السنباطي خلال الأربعينيات حين أدت بطولة فيلمها الوحيد «حنان» عام 1944؟ لكن حداثة الأربعينيات، وتموجاتها الفكرية، والاجتماعية، والثقافية سحبت كل ما في الوردة من شذى، وأبقت فقط على وريقاتٍ مصبوغة بصبا الأيام. كنتُ أتخيّلها كغصنٍ يقامُ الريحَ بكل ما أُوتي من قوة، لكن الرياح تعصف بمجرى السفن. بدأت الخمسينيات بكل ما فيها من تحوّل اجتماعي وسياسي واقتصادي. لقد أُطيحَ بالملك، وتحولت البلاد من ملكية إلى جمهورية. نافخ الأبوا الأسمراني النحيل أصبح نجم النجوم، ومعه بدأت مرحلة فنية جديدة. اختفت أجيال، وظهرت أخرى. حليم هو نجم شباك السينما ودار الإذاعة. كانت السيطرة في البدايات السينمائية لعبد الوهاب قبل أن يظهر في المشهد كل من محمد فوزي وفريد الأطرش. واكتظت الإذاعة مجدداً بأصوات نسائية جديدة أمثال: شادية، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، وغيرهن. من نهاية الأربعينيات إلى الوقت المذكور، نافسن بين الإذاعة والسينما إلى جوار نجمات الشام النازحات صباح، ونور الهدى، ونجاح سلام... لقد ظلّت توحة تقاوم حتى النهاية رغم المرض والخلافات الإدارية داخل الإذاعة. تارة تحضر من خلال ألحان أحمد صدقي، وأحمد عبد القادر، وطوراً من ألحان محمد الموجي، ومحمود الشريف، ورؤوف ذهني. لكن استراحة المحارب قد حانت مع مطلع الستينيات بعد مرض السكري. رحلة طويلة قطعتها في عالم الفن اكتفت في نهايتها أن تجلس وحيدةً في شُرفة شقتها في وسط القاهرة بين أصص النباتات والزهور. حياةٌ بسيطةٌ يظللّها حضور زوجها عازف الكمان السَكندري أحمد فؤاد علّام بعد زيجتين غير موفقتين. أتخليها الآن في تلك اللحظات بينما تضعُ إحدى أسطواناتها على جهاز الفونوغراف. ينطلق الصوتُ شجياً من ألحان شيخ الملحنين زكريا أحمد: «حلاوتها لما تصفا لي أنا وأنتم واللي في بالي» حتى تصل إلى المقطع «ومادام الدنيا ماهيش دايمة، وقيامة على العالم قايمة، حلوها وأفرحوا بيها، والطيّب اعملوا فيها، أحباب والأنس يجمعنا». كلّما كنتُ أتمعن في سطور سيرتها، كنتُ أتخيّل ضحكتها الصافية، ونكتها الحاضرة بين الشخوص. لماذا قررت البحث عن فتحية أحمد: هل لقلة في المعلومات حولها، أم لشغفٍ يتعلّق بصوتها؟ أشعرُ برغبة تدفعني تجاه هؤلاء الذين جرفتهم الأيام تحت أقدامها بعدما كانوا من ذوي الموهبة والنجاح. كلّما حاولتُ أن أشرح لماذا فتحية أحمد، فشلتُ، لكن يقيني أن هذا الصوت الرخيم كان يذكرنا جميعاً بأيام لكل منا فيها نصيب.

* مؤلف كتاب «فتحية أحمد... مطربة القطرين» (دار الجديد)