بعد إرجاء جلسة المجلس النيابي في الخامس عشر من أيار ــ وهي التي سبق أن تأجلت بمرسوم رئاسي ــ ازداد الوضوح السياسي حول مدى عمق أزمة نظام الطائف، الذي باتت إحدى أهم سماته تتمثّل في العجز عن الالتزام بتحقيق الانتظام العام في الحياة السياسية اللبنانية. فعدم انعقاد الجلسة النيابية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بانحلال صيغة الطائف، التي تحوّلت من صيغة صمّمت من أجل إعادة توزيع السلطات والحصص بين الطوائف، إلى صيغة لنظام يجسّد «الفدرلة».
إن هذه الفدرلة قد انبثقت كشكل هجين لمفهوم الديمقراطية التوافقية التي من سماتها الأساسية منع التصويت وعدم الاحتكام إلى الوسائل الديمقراطية في حسم القوانين التشريعية في المجلس النيابي (مثل قانون الانتخاب)، وكذلك عدم الاحتكام إلى القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء، الذي أصبح مثل مجلس الأمن من خلال استخدام حق الفيتو الصريح والفعلي من قبل هذه الكتلة الوزارية المذهبية أم تلك، وفي كثير من المحطات.
وفي خضم هذه الأزمة المتفاقمة، سعى الحزب الشيوعي اللبناني للاضطلاع بدور نشيط في تأطير واستقطاب حالة الاعتراض الشعبي المتحرّر من القيود الطائفية، وتجلى ذلك في تحركاته ونشاطاته ونمط خوضه للانتخابات البلدية والنقابية عام 2016، وصولاً إلى مساهمته في بناء التحالف الديمقراطي الواسع والمستقل عن السلطة الذي حسم معركة انتخابات نقابة المهندسين قبل أسابيع. وفي تظاهرته الكبرى والناجحة في الأول من أيار والتي شكلت منصة لربط المسألة الاقتصادية ــ الاجتماعية بمسألة الإصلاح السياسي عبر دعوته إلى التحرك، من أجل النسبية خارج القيد الطائفي والدائرة الواحدة وذلك عشية جلسة انعقاد المجلس النيابي المخصصة لبحث قانون الانتخابات النيابية في الخامس عشر من أيار.

انبثقت الفدرلة كشكل هجين لمفهوم الديموقراطية
التوافقية

لقد ترجم الحزب مبادرته هذه، عبر الدعوة التي أطلقتها الأحزاب الوطنية والعلمانية والتقدمية إلى الاعتصام في 14 أيار في ساحة رياض الصلح من أجل النسبية خارج القيد الطائفي والدائرة الواحدة وفي محاولته الناجحة مع مجموعات الحراك الشعبي المناضلة بالانضمام إلى اعتصام رياض الصلح، في تحرك سياسي رفع شعارات رفض التمديد والفراغ ورفض القوانين الانتخابية الطائفية وفي مقدمها القانون التأهيلي الذي أطلق عليه الحزب بحق «قانون الفصل المذهبي». وبالرغم من أن الحشد الذي شارك في الاعتصامين (اللذين تحوّلا فعلاً إلى «اعتصام واحد») لا يعكس حقيقة حالة الاعتراض الكامنة في أوساط الشعب اللبناني، إلّا أن التحرك في ذاته انطوى على دلالات مهمّة أبرزها: تحدي البدء بتشكّل قيادة لحالة الاعتراض الشعبي في الشارع، وانخراط مروحة واسعة ومتنوعة من الأحزاب وهيئات المجتمع فيها، والإصرار على أن لا تكون الانتخابات المقبلة كمثيلاتها منذ التسعينيات وحتى اليوم،... وكل ذلك في إطار العمل على قيام دولة علمانية ديمقراطية.
لقد استطاع الحزب الشيوعي اللبناني، انطلاقاً من المبادرة التي أطلقها حول القانون الانتخابي، ومن حرصه الدؤوب على تجميع القوى السياسية والمدنية الديمقراطية المعنية، أن يجعل من يوم الرابع عشر من أيار خطوة متقدمة في مسار بناء قيادة جدية لحالة الاعتراض الشعبي ضد القوانين الانتخابية الطائفية. ويعمل الحزب الآن على إطلاق المرحلة الثانية من هذه المبادرة التي تقضي بالانتقال التدريجي نحو بلورة اتفاق على المساحات المشتركة في قانون انتخابي يفتح باب التغيير الديمقراطي ويجمع القوى والأحزاب والجمعيات التي ترى في هذه الانتخابات فرصة للبدء بوضع لبنان على سكة الإصلاح الحقيقي والتقدم والعصرنة. والنجاح في خوض هذه المرحلة المصيرية، سوف يفتح الأفق نحو إطلاق المرحلة الثالثة من مبادرة الحزب، والتي تتمحور حول حسم الموقع الاعتراضي لكيفية مواجهة الثنائيات الطائفية والسبل والأشكال الملموسة لمواجهتها جميعاً كقوة اعتراضية ديمقراطية وموحدة. وسوف يكون النجاح في إنجاز مهمات هذه المرحلة الثالثة إيذاناً بولادة حقبة جديدة في السياسة اللبنانية في زمن ما بعد الطائف، عنوانها استكمال المعركة من قبل معارضة وطنية شاملة تحمل برنامجاً وطنياً أو برامج وطنية متلاقية نحو الإصلاح والتغيير من خارج الاصطفافات الطائفية وتحالفاتها التي من خلالها تعيد إنتاج سلطتها الفاسدة.
 إن الحزب الشيوعي سوف يعمل في الأسابيع المقبلة على توسيع مروحة هذا التأطير الإيجابي، على المستويين القيادي والشعبي. وعلى المستوى المحلي والمركزي، وعبر التواصل مع كل الفعاليات والشخصيات وممثلي الحراكات التي نزلت إلى الشارع من أجل حقوقها، ومع الذين واجهوا في الانتخابات البلدية والنقابية، من أجل تدعيم وتعزيز فرص التلاقي حول مهمات المرحلتين الثانية والثالثة، وصولاً إلى تنفيذ وإنجاز أكبر قدر متاح من تلك المهمات ضمن ما تبقّى من آجال زمنية قصيرة نسبياً.
كما أنه سيواصل التوجه على المستوى القاعدي إلى منظمات العمال والموظفين والشباب والطلاب وذوي المهن الحرّة وصغار المنتجين والمزارعين والعاطلين عن العمل، من أجل تحفيزهم على المشاركة النشطة في هذه المعركة الوطنية الكبرى. ويحمل الحزب، عبر هذين المسارين القيادي والقاعدي، الهمّ الوطني في وجوب إحداث خرق في عملية التغيير السياسي، التي باتت تشكّل المعبر الوحيد لإنقاذ لبنان من الانهيار الشامل والتفكك الكياني اللذين تدفع إليهما الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصراعات الطائفية والمذهبية على الحصص بين زعماء الفدرلة.
وإلى جانب تزايد فرص الانهيار السياسي الداخلي، يدرك الحزب أن المرحلة المقبلة تحمل في طياتها أيضاً تحديين أساسيين يتطلبان من الحزب الاستمرار في حشد الموارد ومواصلة العمل في ساحتهما.
التحدي الأول، ضرورة تصعيد كل التحركات النقابية المطلبية والشعبية والمشاركة فيها، وكان آخرها تحرك المتقاعدين في الدولة مدنيين وعسكريين، والتصدي لمشروع الموازنة والإبقاء على حالة الاستنفار «الاقتصادي» الشعبي في مواجهة الهجوم المضاد لـ «الهيئات الاقتصادية» التي تحاول الإبقاء على المصالح الاقتصادية لرأس المال المالي والريعي والعقاري والاحتكاري بمنأى عن أيّ ضرائب أو إصلاح ضريبي يطال الأرباح والريوع والفوائد. وبالقدر ذاته من الأهمية يشدّد الحزب في هذا المضمار على قطع دابر استباحة ونهب المال العام من قبل القوى الطبقية والطائفية الحاكمة التي نضبت مواردها المالية الخارجية بسبب الأحداث الجارية في المنطقة وتغيّر أولويات «المانحين» الخارجيين وانخفاض أسعار النفط. وإذ يؤكد الحزب على وجوب الربط بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي ــ مستنداً في ذلك إلى التوجهات البرنامجية لمؤتمره الحادي عشر ومستعيناً بما تضمّنه البيان الوزاري البديل الصادر عن الحزب من مقترحات ملموسة على هذا الصعيد ــ فإنه سوف يواصل بذل الجهود في الوقت ذاته بغية التوصل مع القوى السياسية المشاركة معه في معركة القوانين الانتخابية، على التمسّك بهذا الربط بين القضيتين. والحزب بتوجهه هذا يؤكد المبدأ اللينيني بأن السياسة ما هي إلّا «اقتصاد مركز»، جاعلاً بذلك من المصالح الحيوية للطبقات الشعبية في المجتمع، جزءاً لا يتجزأ من محدّدات الصراع السياسي من أجل التقدم والعدالة والمساواة.
أما التحدي الثاني، فيكمن في تزايد الضغوط ومخاطر الهجمة الإمبريالية الشرسة على المنطقة والتي يتابع الحزب مخاض استعارها المحتمل بعيد الاجتماعات المحضرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في إسرائيل والسعودية هذا الشهر. وإذا كانت العقوبات الأميركية الجديدة على لبنان من بوابة النظام المالي هي أولى تباشير هذه الضغوط فليس مستبعداً، من ضمن الاحتمالات الواردة، إمكان حصول عدوان إسرائيلي على لبنان في محاولة للقضاء على المقاومة. إن الحزب الشيوعي اللبناني، اليوم كما في السابق، سوف يلبي نداء الوطن والشعب في حال حصول هكذا عدوان، مؤكداً على أن لا عمل يوازي «الدفاع عن الوطن»، وأن الحزب الذي أسس المقاومة منذ خمسينيات القرن الماضي وأطلق المقاومة الوطنية في عام 1982 سيكون حاضراً للدفاع عن الوطن والأرض.
لكل هذا، فإن المرحلة المقبلة هي مرحلة تركّز الصراع على جميع المستويات. وهذا يتطلب أعلى درجات التعبئة والوعي على المستويين السياسي والتنظيمي من أجل زيادة درجة الكفاءة والكفاحية والاستعداد لدى الشيوعيين لتنفيذ المهمات الحزبية والالتزام بها وإنجاز مقررات المؤتمر الحادي عشر، استكمالاً للتقدم الكبير الذي حققه الحزب منذ سنة وحتى الآن.
(افتتاحية مجلة «النداء»)
* الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني