كان | مع بداية عروض الأسبوع الثاني من «مهرجان كان»، كانت الكروازيت، أمس، على موعد مع العدمية في أشكالها الأكثر عنفاً وقتامة. تُرجم ذلك من خلال ثلاثة أفلام، في مقدمتها «نهاية سعيدة» للمعلم النمساوي مايكل هانيكه، الذي لم يحمل من السعادة سوى عنوانه المخاتل، و«اغتيال الأيل المقدس»، لعرّاب السينما الغرائبية، اليوناني يورغوس لانثيموس، الذي نجح في أن يعود بفيلم أكثر قتامة من رائعته «جراد البحر»، التي صدمت وأبهرت الكروازيت، في آن معاً، قبل عامين.
فيلما هانيكه ولانثيموس ينافسان، بالطبع، على السعفة الذهبية. أما الجزائري كريم موساوي، فقد سلّط في فيلمه «في انتظار السنونوات» (عُرض ضمن تظاهرة «نظرة ما» وينافس أيضاً على «الكاميرا الذهبية»، بوصفه العمل الأول لمخرجه)، نظرة مغرقة في اليأس وصفاء الرؤيا ــ في آن معاً ــ على بلاده المشلولة التي تراوح مكانها، متخبطة بين كوابيس ماضيها الدموي وآفاق المستقبل المسدودة، في انتظار بوادر ربيع طال تأجيله.
بالرغم من عنوانه المخادع، قطع هانيكه في «نهاية سعيدة» شوطاً إضافياً على درب العنف العدمي، مستعيداً تيمة الشيخوخة، التي صوّر فجائعها وخيباتها، ودفعت بشخوصه الى اليأس والانتحار في رائعته «حب» (السعفة الذهبية – 2012). بطل «حب» النجم جان لوي ترانتينيان، يعود هنا ليلعب دور جد سبيعيني يحاول الانتحار مراراً، بعدما أقدم على خنق زوجته العجوز، لتحريرها من معاناة صراع دام ثلاث سنوات ضد مرض مستعص على العلاج. لكن هانيكه لم يكتف بعدمية اليأس من الحياة الناجمة عن آلام الشيخوخة، بل جعلها تتقاطع وتتفاعل مع جيل جديد من العدميين الشباب، الذين ربتّهم شبكات التواصل الاجتماعي. برز ذلك في الفيلم من خلال «إيف» (حواء)، حفيدة جان لوي ترانتينيان (جورج لوران)، التي تتسلى بتسميم فأرة أهديت لها في عيد ميلادها، لكسب اللايكات على فايسبوك. وإذا بها تكرر فعلتها مع والدتها، إثر خلاف عابر بينهما! حين يعلم جدها بالأمر، يجد فيها ضالته لإيجاد وسيلة فعالة للانتحار. تساعده، بالفعل، في وضع كرسيه المتحرك على حافة البحر. لكن ابنه (ماثيو كاسوفيتش) وابنته (إيزابيل أوبير) يلحقان به، في آخر لحظة، قبل أن يغرق. وهناك تكمن «النهاية السعيدة» المزعومة للفيلم!
في «اغتيال الأيل المقدس»، يواصل لانثيموس مرافعته العدمية المعتادة ضد العائلة ومؤسسة الزواج، التي احتلت مكانة مركزية في أعماله كافة، من «أنياب» (الجائزة الكبرى – «نظرة ما» – 2006) الى «جراد البحر» (جائزة أفضل سيناريو – 2015). العائلة التي اختار هنا أن يصبّ جنونه وخياله الجامح عليها، تعيش حياة برجوازية هانئة ورتيبة، فالأب جراح شهير وزوجته طبيبة عيون. ابناهما متألقان ونابغان دراسياً. فجأة، يتعلق الجراح بـ «مارتان»، وهو مراهق مات والده إثر جراحة قلبية أجراها له. لكن الفتى، الذي يبدو في البداية خجولاً ومنغلقاً، لن يلبث أن يكشف عن روح شيطانية. وإذا به يقوم بتسميم زوجة الجراح وابنيه، بوسيلة غامضة تستعصي على العلاج، ويخبره أنهم سيصابون تباعاً بالشلل، ثم بالامتناع عن الأكل، ثم تبدأ عيونهم بالبكاء دماً. ينتهي بهم الأمر الى الموت، ما لم يختر الأب الجراح واحداً للتضحية به كأيل مقدس، تكفيراً عن تسببه في مقتل والد الفتى الشيطاني!
من جهته، سعى كريم موساوي ليرسم بورتريهاً جماعياً لبلاده، التي تعاني انسداد الأفق على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية: رجل اعمال نزيه، يكاد يفقد رشده بسبب البيروقراطية والفساد. عاشق شاب يحمل اسم «جمال»، لكنه ينضح قبحاً وخنوعاً، ويقبل بأن يرافق بسيارته عائلة الجيران التي تزف ابنتها (حبيبته) لزوج مجهول في مدينة نائية. طبيب محبوب ومحترم تطارده أشباح الماضي، أيام كان رهينة (رفيق درب) الجماعات «الجهادية» في الجبال، ليجد نفسه ملاحقاً من قبل أم تعرضت لاغتصاب جماعي من قبل الإرهابيين (ناديا قاسي في أحد أجمل أدوارها منذ رائعة مرزاق علواش «باب الواد سيتي» – 1993)، وتطالبه بأن يمنح اسمه لابنها الذي وُلد من جريمة الاغتصاب.
في لحظة ما، تحاول كل واحدة من هذه الشخصيات أن تتمرد وتتحدى الأمر الواقع، لكنها لا تلبث أن تختار الخنوع والعدمية، مفضلة السلامة على مجازفة الانتفاض من أجل التغيير، مما يجعل سنونوات الربيع التي يبشر بها عنوان الفيلم مجرد سراب مخادع!