لا حلول وسطى في حياة نضال الأشقر. هي تفعل كل شيء بجوارحها: التمرّد، والعشق، والفن، وحب الوطن، وتقديس الحرّية... مع كل إنجاز جديد تحققه، تؤكد «سيّدة المسرح اللبناني» أنّها امرأة استثنائية.
في كل مرّة نلتقيها، يترسّخ يقيننا بأنّ السنين، بحلاوتها ومرّها، لم تُرهق عزيمتها واندفاعها للحياة عموماً، والمسرح خصوصاً... في داخل «الست نضال» الكثير من الصبا والحيوية والإقدام على الابتكار والتجديد، إلى درجة تفوق ما لدى عدد كبير من شباب اليوم.
مع الوقت، وبفعل تجربة فنية رائدة وغنية مستمرّة منذ أكثر من نصف قرن، نالت «زنوبيا» تكريمات في دول عدّة. لكن اليوم، سيكون الاحتفاء لبنانياً ومتميّزاً. مساءً، تحتفي «الجامعة الأنطونيّة» (الحدث ــ بعبدا) بنضال الأشقر، وستوزّع كتاب «اسم علم» بنسخته الـ 11، تحت عنوان «نضال الأشقر... حكاية نضال» (راجع الكادر). مؤسِّسة «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت) سعيدة جداً بهذه المبادرة «التي لا يُمكن رفضها»، خصوصاً أنّ «الأنطونيّة» تحمل بذور «الثقافة والإنسانية والتحرّر، فضلاً عن اهتمامها الكبير باللغة العربية». هذا ما تؤكده لنا إبنة السياسي والقيادي في «الحزب السوري القومي الاجتماعي» أسد الأشقر (1908 ــ 1986) أثناء دردشة صباحية في منزلها في كليمنصو.
خطوة لا بدّ من تثمينها طبعاً، في بلد لا يتذكّر كباره عادةّ إلا بعد رحيلهم. تخصيص الفنانة المولودة في الأربعينيات بهذا التكريم، أقل ما يمكن فعله بالنسبة لأيقونة نادرة من أيقونات لبنان النهضة، والتنوير، والفكر التقدّمي.
من منزل أهلها في قرية ديك المحدي (جبل لبنان)، انطلقت نضال الأشقر إلى عالم التمثيل. التحقت بـ «الأكاديمية الملكية للفنون الدرامية» (RADA) عام 1960، تزامناً مع انقلاب القوميين الذي سُجن والدها على أثره. بعد سنوات من الدراسة الممزوجة بالاحتراف، عادت المسرحية اللبنانية الشهيرة إلى بلدها حيث برز اسمها في عدد من الأعمال، في الوقت الذي كرّت فيه سبحة الأعمال مع روجيه عسّاف، بدءاً من «الآنسة جولي» (تعريب الراحل أنسي الحاج)، من دون أن ننسى باكورتها الإخراجيّة «المفتّش العام» مع رضا كبريت عن نص لغوغول.
إلى جانب المشاريع التي جمعتها بعسّاف على الخشبة، مثّل تأسيسهما «محترف بيروت للمسرح» (1968) مرحلة محورية ومفصلية في تاريخ المسرح اللبناني، سيّما أنّه تحوّل إلى مقصد للأقلام الناقدة والشعراء والفنانين. والأهم أنّه شكّل مختبراً فكرياً وسياسياً. ثم حان موعد «مجدلون» التي ولّدت مواجهة شرسة لا سابق لها مع الرقابة، ليستمر الخطاب السياسي الجريء المتمسّك بالمقاومة والالتزام بالقضايا المحقة ومحاربة الفساد مع مسرحيات عدّة، على رأسها «كارت بلانش» (1970 ــ نص عصام محفوظ)، و«أنتيغون» التي أخرجها فؤاد نعيم في 1973، ثم تزوّج نضال في العام نفسه. الحرب الأهلية، دفعت الثنائي إلى الأردن (1974). هناك، تعرّفت نضال إلى فنانين وشاركت في مهرجانات عربية. كل هذا جعلها تؤسّس فرقة «الممثلون العرب» مع المسرحي المغربي الراحل الطيب الصديقي. تجربة ترى الأشقر أنّها «الامتداد العربي» لـ «محترف بيروت للمسرح».
بعد عمّان، أمضت بطلة مسرحية «إضراب الحرامية» (1971) خمس سنوات في قبرص مع أولادها، ثم حطّت في بيروت في عام 1992 لتؤسّس بعد ذلك بعامين «مسرح المدينة». يوماً بعد يوم، ورغم كل العقبات، يتمسّك هذا الصرح البيروتي بدوره الأساسي في احتضان المواهب الشابة الشغوفة بالفن والمسرح. وراء هذا الدور، تقف سيّدة مجبولة بالعناد والإصرار على رفض الاستسلام لظروف البلد القاسية، والصعوبات المادية، والتشرذم الحاصل بفعل الحروب المتنقلة في المنطقة العربية.

تعزيز الانفتاح على الجمهور العربي في هذه الظروف

لكن ما الذي يُبقي «نار» الحماسة مشتعلة في داخل نضال الأشقر؟ «حماستي أستمدّها من الشباب الخلّاق الراغب في العمل، لكن في العام الماضي تحديداً، زدت إيماناً بأنّني أسير على الطريق السليم». ثم توضح: «النجاح الكبير للاحتفالية بالعشرية الثانية لتأسيس «مسرح المدينة»، وإقبال الناس الكثيف على العروض، أوصلاني إلى هذه النتيجة».
كثيرة هي المشاريع الموضوعة على جدول أعمال الأشقر الرامية إلى تعزيز الانفتاح على الجمهور العربي في هذه الظروف، أهمّها الليالي الخاصة بدعم مسرحها، وكان آخرها تلك التي أحيتها مايا دياب مع الراقص البلدي أليكس بوليكيفتش في 15 أيّار (مايو) الحالي. ترفض «الست نضال» الردّ على منتقدي استضافة دياب في هذا الصرح الفني، وتكتفي بالقول: «هذا المكان يتسع للجميع ولكل أشكال الفن، من التمثيل إلى الكباريه. لم تتردّد مايا في مساعدتنا، ويكفي أنّنا جمعنا أكبر مبلغ منذ البدء بتنظيم أنشطة مماثلة». وتردف: «سأكمل في هذه الحفلات من وقت إلى آخر، سيّما أنّ الأموال المؤّمنة منها تساعدني في تقليص الكلفة بالنسبة للشباب. وآمل أن تلبي هيفا وهبي دعوتنا في المرّة المقبلة. المسرح زبدة الفنون، وهو فضاء مدني بعيد عن كل أشكال الطائفية والتعصّب، ويجب أن يبقى كذلك». وفي سياق متصل، تشدد الأشقر على أنّه في وقت صار فيه المثقفون أبعد عن بعضهم من أي وقت مضى بسبب السياسة، لا بد من إيجاد أرضية جامعة. مع العلم بأنّ السنوات الخمس الأخيرة، شهدت حركة مسرحية نشطة جداً في العاصمة اللبنانية».
من هذا المنطلق، تنوي نضال تأسيس فرقة مسرحية خاصة بها، وتتحضّر لعمل مسرحي كبير العام المقبل على طراز «منمنمات» و«3 نسوان طوال» وغيرهما. أما في شهر رمضان، فستقدّم عرضها الجديد «مش من زمان» (وضع وتنفيذ نضال الاشقر ـ في 20 و21 حزيران/ يونيو). إنّه سيرتها الذاتية، وعبارة عن مذكّرات مغناة ممسرحة، بمرافقة الموسيقيين: خالد العبد الله، ومحمد عقيل، ونبيل الأحمر، وإبراهيم عقيل.
قبل ذلك، يقدّم سيمون شاهين في 12 حزيران حفلة موسيقية في مناسبة منحه الدكتوراه الفخرية في «الجامعة الأميركية في بيروت».
ومن 6 حتى 15 حزيران، يطل جورج خبّاز في مسرحية «الملك يموت» (ليوجين ايونسكو ــ إخراج فؤاد نعيم)، من بطولة يارا بو نصار، وباتريسيا سميرة، ومي أغدت سميث، وموريس معلوف، ووليد جابر، مع الموسيقيين: محمد عقيل، ونبيل الأحمر، وعماد حشيشو.
بهذه البرمجة, تؤكد نضال أهمية انفتاح «المدينة» على مختلف أشكال الإبداع والفنون التي تتوجه إلى الجمهور بتنوّعه وميوله العديدة.

*احتفالية «حكاية نضال» تكريماً لنضال الأشقر: اليوم ــ الساعة السادسة والنصف مساءً ــ حرم «الجامعة الأنطونيّة» (الحدث ــ بعبدا). للاستعلام: 05/927000




«حكاية نضال»

منذ سنوات، تعمل «الجامعة الأنطونيّة» على إعلاء شأن الثقافة والفكر والإبداع والحوار. وفي سياق أنشطتها الرامية إلى تكريم أسماء بارزة في الساحة الثقافية، اختارت المؤسسة التعليمية التي يرأسها الأب جرمانوس جرمانوس الاحتفاء بنضال الأشقر. لن يكون الموعد هذه المرّة كالتكريمات التقليدية، إذ سيتخلله توزيع النسخة الـ 11 من كتاب «إسم عَلَم» تحت عنوان: «نضال الأشقر... حكاية نضال» (تقديم منسّق اللغة العربية في الجامعة الإعلامي بسّام برّاك). يتألف هذا الإصدار من ثلاثة أقسام، هي: «الحكاية بأقلام اليوم»، و«الحكاية ذات أمس»، و«من حكاية المسرح». ستُروى هذه الحكاية المتميّزة عبر أربعين شهادة، بعضها كُتب خصيصاً للمناسبة، وأخرى من أرشيف «مسرح المدينة»، تولّت الجامعة إعادة طباعتها وتوثيقها. ومن بين الأسماء، نذكر: الشاعر والكاتب عيسى مخلوف، والممثلة جوليا قصّار، والشاعرة سلوى الخليل الأمين، والممثل أسعد رشدان، والإعلامي ريكاردو كرم، وزوجها الصحافي والمخرج فؤاد نعيم، والروائية علوية صبح، إلى جانب مقالات ومقابلات من الصحافة العربية.
هذا ليس كل شيء، إذ سنجد في الكتاب مشهدين من مسرحية «كارت بلانش» التي تفرّدت بخطاب سياسي جريء، كما خصصت «الست نضال» الجامعة بنص مسرحيّتها الجديدة «مش من زمان».
وفي الكتاب أيضاً، صور بالألوان من حياتها العائلية والاجتماعية، ومجموعة من الأدوار التي برعت في تقديمها في مسرحيات على شاكلة: «صبح والمنصور»، و«الواوية»، و«زنوبيا»، و«المتمرّدة»، و«الأجنحة المتكسّرة»، وغيرها.
وضمن محطات الحدث اليوم، ستُعرض على ثلاث مراحل مقابلة مصوّرة (30 د) أجراها بسّام برّاك مع المكرمة في منزلها، وفي شارع الحمرا، وفي «مسرح المدينة». وسيكون الحضور على موعد مع كلمة من برّاك في الافتتاحيّة، ومن رئيس الجامعة، ومن نضال التي ستقرأ بصوتها الرخيم من كتابات جبران خليل جبران وفؤاد سليمان، قبل أن يُختتم اللقاء بتقديم الريشة الفضية ورفع الستارة عن جدارية تحمل اسمها.