تونس | شهدت ولاية تطاوين في جنوب شرق تونس أول من أمس، مواجهات بين قوات الأمن والمعتصمين، ومتظاهرين مساندين لهم، أدت إلى وفاة أحد المعتصمين وإصابة آخرين، بينهم اثنان في حالة حرجة، فيما أُحرق مقرّان للشرطة ومعدات أمنيّة، وأصيب عدد من قوات الأمن بجروح متفاوتة.
ونشبت المواجهات على خلفيّة محاولة فكّ الاعتصام المستمر منذ ما يقارب الشهر، وتوسّع أخيراً من منطقة الكامور ليصل إلى محطّة ضخّ النفط في الصحراء. لكن الإعداد لإنهاء الاعتصام، والتحركات الرديفة له، بطريقة أمنيّة، لم يكن وليد اللحظة، إذ يمكن العودة إلى خطاب رئيس الجمهوريّة يوم 10 أيار/ماي الجاري، الذي جاء عقب إخفاق زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، للمنطقة في 27 نيسان/أفريل الماضي.
في ذلك الخطاب، قال الرئيس باجي قائد السبسي: «أمام الوضع القائم، وبعد استشارة مجلس الأمن القومي، قررنا أنه من هنا فصاعداً، الجيش هو من سيحمي منابع النفط، وأنبهكم إلى أنّه عندما يتولى الجيش المسؤوليّة، فإن التعامل معه يصير صعباً... نعرف أن هذا قرار خطير، لكنه ضروريّ لكي نوقف ما يجري». وإن كان الخطاب متناسقاً مع التوجه السياسيّ العام للرئيس منذ حملته الانتخابيّة، القائم على الدفاع عمّا يحبذ أن يطلق عليه هو «هيبة الدولة»، فإنّ تنسيقيّة الاعتصام في تطاوين، وطيفاً واسعاً من السياسيّين والمراقبين، رأوا أنّ الخطاب يقوم على نبرة تهديديّة لم تعد تخيف أحداً، وأنّ الرئيس ينوي «توريط الجيش» (الذي يُعدُّ المؤسسة الوحيدة تقريباً التي تحظى بثقة التونسيّين وإجماعهم) في قضيّة من المفترض أن تُحَل بوسائل سياسيّة.

الطريق إلى المواجهة

كما كان متوقعاً، ألقت الحكومة بمقترحاتها إلى المحتجين، راجيةً تحييد الجزء الأكبر منهم والتعامل مع البقيّة، وإن بطريقة أمنيّة. لكن يبدو أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
بحسب السرديّة الرسميّة للأحداث، التي جاءت على لسان وزير التشغيل، المكلف التفاوض مع محتجي تطاوين عماد الحمامي، أول من أمس، فقد نجح وفد الحكومة يوم 15 أيار/ماي في إقناع أغلبيّة المحتجين بما عُرِض عليهم. ويقول الوزير إنّ نتيجة تصويت المحتجين كانت تميل إلى رفع الاعتصام، مع وجود أقليّة رافضة لا تمثّل أكثر من «عُشر المصوِّتين».

يبدو أن الرواية الرسمية
تمعن في إضفاء طابع
مؤامراتي على الأحداث
وبناءً على ذلك، وفق السردية نفسها، انطلقت عمليّة رفع خيام الاعتصام من على طريق الكامور، وكان من المفترض عقد ندوة صحافيّة لإعلان الأمر. لكن، «عمدت الأقليّة» إلى دفع الاحتجاج قدماً، فتوجهت إلى محطّة ضخّ النفط لإغلاقها، وقد «نجح المصعّدون في مسعاهم»، لكن أعيد تشغيل محطة الضخّ لاحقاً، وعندما تكررت محاولتهم تدخل الأمن لصدّهم فاندلعت المواجهات.
ويُمعن الحمامي في إضفاء طابع مؤامراتيّ على سرديّته، إذ يقول إنّ المجموعة الأقليّة يتزعمها شخص «صاحب سوابق عدليّة»، كذلك فإنها تلقت مبلغاً مالياً من رجل أعمال يريد افتكاك عقد آل لغيره مع الشركة التونسيّة للأنشطة البترولية (شركة عموميّة مسؤولة عن تنظيم قطاع البترول). وإلى جانب ذلك، يواصل الوزير معتبراً أنّ مطالب المحتجين المتوجهين إلى محطة الضخّ تتجاوز سقف المطالب المرفوعة سابقاً، إذ تنادي بتأميم النفط وباقتطاع نسبة 20 في المئة من عائداته لصالح الجهة، وأنها تصل إلى حد «المطالبة بالانفصال».
أما علي العريّض، القياديّ في «حركة النهضة»، الذي سبق له أن وجّه عندما كان يشغل منصب وزير داخليّة في حكومة «الترويكا» الاتهام إلى القيادي اليساري المغتال شكري بلعيد، بالوقوف وراء أحداث سليانة (علماً أنّ بلعيد كان وقتها خارج البلاد)، وجّه هذه المرة الاتهام إلى كوكبة من الجهات السياسيّة المتنافرة، جمع فيها بين حزب «مشروع تونس» الليبراليّ و«حزب التحرير» الإسلاميّ وأحزاب ذات توجهات قوميّة عربيّة.
وفيما تحاول الرواية الرسميّة إظهار الحكومة في صورة الضحيّة، يقول خبير أمنيّ لـ«الأخبار» إنّه «إذا ما كانت هذه التصريحات صائبة، فإن ذلك يعني حدوث إخفاق أمنيّ، إذ إنّ وجود المعلومة كان يستدعي التحرّك لاستباق الأحداث، بالقبض على هذه الأطراف المزعومة أو على الأقل اتخاذ احتياطات أمنيّة».
ومن جهة أخرى، يقول المحتجون إنّهم حافظوا على سلميّة تحركاتهم، مضيفين أنّ الأمن هو من بادر باستعمال القوّة المفرطة، فأحرق خيام الاعتصام وطارد المعتصمين بالسيارات، ما أدى إلى وفاة شاب تحت عجلات إحداها (تقول الحكومة إن الشاب توفي نتيجة تدافع المحتجين عند اقتحامهم مقر الشرطة). كذلك أدانت تنسيقيّة اعتصام الكامور عمليات الحرق ودعت إلى التزام السلميّة، ودوّن يوسف بن موسى، أحد الناشطين البارزين في تطاوين، على صفحته في موقع التواصل الاجتماعيّ «فايسبوك»، قائلاً إنّ «قتل ناس جريمة دولة، وحرق المؤسسات العامة والممتلكات عمل إجراميّ، ولا تستوي الروح والإسمنت».
ولم يغب «الاتحاد العام التونسي للشغل» عن المشهد، إذ أصدر فرعه الجهوي بياناً جاء فيه أنّه «يحمّل الحكومة المسؤوليّة الكاملة في ما وصلت إليه الجهة من احتقان، وذلك باستعمالها العنف لفضّ الاحتجاج السلميّ، سواء في الكامور أو في الولاية»، مطالباً إياها «بالحوار مع الشباب المحتج الذي يطالبها بالشغل والتنمية لجهة مهمّشة منذ عقود».

ليست تطاوين وحدها

لم تنحصر الاحتجاجات في تطاوين، بل امتدت إلى مناطق أخرى تعيش نفس الدرجة من التهميش الاقتصاديّ وتشاركها الإحساس في الظلم والإقصاء. وقد أعلن أمس الإضراب العام في مدينة دوز الواقعة في ولاية قبلّي، استثنيت منه المؤسسات الصحيّة والتعليميّة والمخابز، ونظّمت مسيرة انتهت عند الثكنة العسكريّة بالمنطقة، حيث ردد المحتجون النشيد الوطنيّ للتعبير عن احترامهم للمؤسسة العسكريّة، على حد تعبير تنسيقيّة اعتصام عرقوب التي ترفع مطالب مشابهة للمطالب المرفوعة في تطاوين. كذلك نظّمت أول من أمس، مسيرة مساندة لاعتصام الكامور في ولاية توزر، انتهت بمواجهات بين المحتجين والأمن، إلى جانب وقفة احتجاجية مماثلة في ولاية القصرين.
ورغم عودة الهدوء نسبياً إلى ولاية تطاوين أمس، بعد انسحاب الأمن، لكن لا تُستبعد إمكانيّة عودة المواجهات بين المحتجين والشرطة، أو عودة الاعتصامات في الأيام المقبلة. ولعلّ الأهم أنّ المسألة، إذا ما وُضِعت في إطارها العام، تتجاوز مجرّد الاحتجاج لتطرح أسئلة عن مستقبل الانتقال الديموقراطيّ، في ظلّ غياب انتقال اقتصاديّ يسنده، خاصة أنّه يغيب نموّ الاستثمار الخاصّ في البلاد، وتحديداً في ما يعرف بـ«المناطق الداخليّة» غير الساحليّة، وتتجنب الدولة الاستثمار في غير البنى التحتيّة، الذي يتقدم بدوره بخطى بطيئة. وفي انتظار بديل (قد يطول انتظاره)، يلقي مركّب العطالة الاقتصاديّة والاحتجاجات المزمنة بظلال ثقيلة على حاضر تونس ومستقبلها القريب.




إيقاف شفيق جراية

تعرض رجل الأعمال المثير للجدل شفيق جراية، للإيقاف بعد ظهر أمس، في منطقة البحيرة (الضاحية الشماليّة للعاصمة تونس). وبحسب المعلومات الأوليّة، أوقفت فرقة مختصة من الحرس الوطنيّ جراية، وهو بصدد الدخول إلى أحد المقاهي، واقتادته إلى ثكنة العوينة. أما التهم الموجهة إليه، فلها علاقة بـ«أمن الدولة». وقد يكون للإيقاف علاقة بتصريحات عماد الطرابلسي، صهر بن علي، في إطار شهادته في «هيئة الحقيقة والكرامة» التي تحدث فيها عن قضية استيراد الموز مع جراية وما شابها من فساد. وقد تزامن إيقاف جراية مع إيقاف ياسين الشنوفي، المرشح الرئاسي السابق والضابط السابق في الجمارك.
ويُعرف شفيق الجراية بقربه من شقّ حافظ قائد السبسي، نجل رئيس الجمهوريّة باجي قائد السبسي، في حركة «نداء تونس»، وبقربه من سفيان طوبال رئيس كتلة الحركة في مجلس نواب الشعب. وقد سبق له أن قال، في معرض إجابته عن سؤال حول نيّة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عرض رجال أعمال فاسدين على القضاء بتهم فساد، إنّ الشاهد «عاجز حتى عن إدخال عنز إلى السجن».