بات «مهرجان كان» الذي انطلق قبل نحو أسبوع في منتصف مشواره. شيئاً فشيئاً، تتضح الرؤية وتبرز الافلام اللافتة التي تملك حظوظ الفوز، مع العلم أن آراء النقاد قد تأتي مختلفة تماماً لخيارات لجنة التحكيم أحياناً. كما لا يمكن الحسم حتى اللحظة الأخيرة وحتى عرض آخر أفلام المسابقة الجمعة.
في نيسان (ابريل) الماضي، لدى الكشف عن لائحة الافلام المشاركة في «كان»، تحدّث مديره الفني تييري فريمو عن عرض فيلم تابع لـ«حقيقة مزعجة»، بعد مرور 10 سنوات على تقديم نائب الرئيس الاميركي السابق آل غور الفيلم في المدينة الفرنسية. مساء الاثنين، كان الحاضرون في المهرجان على موعد مع الجزء الثاني للفيلم من إخراج بوني كوهين وجون شانك وفي حضور آل غور. يتابع المخرجان آل غور من بلد الى آخر في الفيلم، حيث نراه يقدّم المحاضرات ويجتمع بمسؤولين سياسيين، بغية عرض حلوله لمحاربة الاحتباس الحراري الذي يشهده كوكبنا. يحمل الفيلم عنوان «تتمة مزعجة: وقت التحرك». بعد مرور كل هذه السنوات، يلقي الوثاقي الضوء على كواليس رحلات آل غور الدولية، وسعيه الى التأثير في السياسة العالمية في مجال البيئة. فالأخير تخلى منذ زمن عن فكرة دخول مجال السياسة مجدداً، ويؤكد في أحد مشاهد الفيلم ممازحاً إنه «سياسٍ متعافٍ». وكلما تقدّم في عملية الشفاء هذه، صعب عليه العودة إليها. خلافاً للجزء الاول، لم يعد آل غور يكتفي بوضع الاصبع على الجرح وإظهار مخاطر الاحتباس الحراري. فهو في هذه المرحلة، يجول العالم محاولاً إقناع المسؤولين بضرورة التحرك وبإمكانية فعل ذلك. كما يلقي باللوم على المستفيدين من الاستمرار في استعمال موارد الطاقة التقليدية الملوثة للبيئة في سعيهم الى التخفيف من أهمية الطاقات البديلة. الفيلم يحمل الأمل وحباً للأرض عارضاً الحلول الواقعية التي لم يفت الأوان اللجوء إليها. وقد لقي استقبالاً حاراً والتصفيق المطوّل بعض عرضه الاولي في المهرجان.
في ما يتعلق بأفلام المسابقة، يتصدر حتى الآن فيلما «120 دقة في الدقيقة» لروبن كامبيّو و«المربع» لروبن أوستلند قائمة الاعمال المفضلة لدى النقاد في المهرجان. في المقابل، كانت هناك أفلام منتظرة جداً، لعل أبرزها «نهاية سعيدة» لمايكل هانيكه. يصور المخرج النمساوي الحائز سعفتين ذهبيتين من المهرجان عائلة بورجوازية تعيش في كاليه الفرنسية، مقدماً دراسة بلهجة ساخرة للبورجوازية، ومتطرقاً في الوقت نفسه وبطريقة غير مباشرة الى مسألة المهاجرين هناك. فهؤلاء هم أشخاص لا أهمية لهم في ظلّ مشاكل العائلة الكبيرة، وأشبه بديكور لتكميل المشهد. يستعين هانيكه مجدداً بجان لوي ترانتينيان الذي نراه هنا في دور العجور اليائس الراغب بوضع حدّ لحياته بكل الوسائل الممكنة، وإيزابيل أوبير الابنة القاسية التي تدير الاعمال. شقيقها توماس طبيب يعاني المشكلات مع ابنته التي رُزق بها من زواج سابق ويجد صعوبة في الاهتمام بها. أما بيار، ابن آن، فيبدو خارجاً عن هذه العائلة ويعاني عقدة النقص. ولكن كل هذه القصص المتداخلة التي يكشف لنا الفيلم علاقتها بعضها ببعض تدريجاً لن تكون مادة لفيلم سودواي محزن. فهانيكه يستمتع بإلقاء نظرة مختلفة على الموضوع بنوع من الخفة والسخرية اللامبالية. في أحد الحوارات التي تتبادلها مع حفيدته، ندرك أن شخصية ترانتينيان هي نفسها شخصية فيلم «حب» إذ يروي للصغيرة كيف ساعد زوجته المريضة على الموت، وهو بالتالي يحتاج الآن الى من يسديه الخدمة نفسها.
«رودان» لجاك دوايون كان من الافلام المنتظرة أيضاً، خصوصاً أن الممثل الفرنسي فانسان لاندون يضطلع فيه بشخصية الفنان الشهير. يعود بنا العمل الى باريس العام 1880، حيث يحصل رودان الذي بلغ الأربعين على أول طلب رسمي من الدولة. يعيش مع روز شريكته منذ سنوات طويلة، ويقع في غرام كامي كلوديل التي كانت إحدى اكثر طالباته موهبة. تبدأ قصة حب عاصفة ممزوجة بالشغف والاعجاب المهني. ويركز الفيلم على تحفة «بالزاك» التي قضى رودان سنوات طويلة في العمل عليها، وكانت نقطة سوداء في مساره آنذاك، قبل أن تعتبر لاحقاً نقطة تحول مهمة في مجال الفن المعاصر. تماماً كما في أعمال رودان، اللمس وإثارة الاجساد ظاهرتان بطريقة واضحة في العمل الذي يركز على حركة الاجسام وحريتها. كما نرى علاقة الفنان الوثيقة بالطبيعة والاشجار التي يحب ملامستها بحثاً عن نوع من الالهام لأعماله.
بمعزل عن الافلام، يحفل المهرجان أيضاً بالجلسات والدروس السينمائية. حضور كلينت إيستوود الى المهرجان في عطلة نهاية الاسبوع كان لتقديم فيلمه «غير مُسامَح» وإعطاء درس في السينما من أبرز اللحظات، خصوصاً أن إطلالات المخرج والممثل الاميركي في هكذا نوع من التظاهرات نادرة.
لحظات طويلة من الانتظار والترقب وخيبة كبيرة للبعض بعد تعذر دخولهم صالة «بونويل» حيث دار الحوار مع إيستوود، من دون أن ننسى لقطات الـ «سيلفي» مع السينمائي قبل مغادرته الصالة. تلك كانت الاجواء المحيطة باللقاء الذي أداره أحد النقاد الاميركيين. عاد إيستوود بالذكريات الى تجاربه التمثيلية الاولى الفاشلة في المدرسة، والى حبّه منذ كان طفلاً لأفلام الويسترن. كما تحدّث عمن اعتبرهما مرشديه في السينما دون سيغل وسيرجيو ليوني، مخبراً بعض القصص الطريفة من هنا ومن هناك. بالنسبة الى إيستوود الذي بات في الـ86 من العمر، عالمنا اليوم ينقصه الخيال وحس الفكاهة، ويعتبر اننا أصبحنا جديين الى حد كبير. بالحديث عن دوره في «هاري القذر»، أكّد أنه أحب النص آنذاك، وأن التفكير في اتباع ما هو صائب أو "Politically correct" دوماً لم يكن وارداً في ذلك الوقت، وهذا ما يقتلنا في نظره اليوم.