دمشق | شعر سهيل عرفة بدنو أجله، فأوى إلى عوده، ليعزف اللحن الأخير! لم يكن المشهد وجدانياً فحسب، بل أراده أن يكون مسك الختام المهني أيضاً. هكذا، كتب ولحّن أغنية لم تر النور حتى الآن، وتمنى لو يتمكّن من سماعها بصوت سوري عريق قبل أن يطبق جفنيه إلى الأبد. جرّب الاتصال بميادة الحناوي، لكن المجيب الآلي باغته بأنّ «مطربة الجيل» خارج البلاد كونها كانت في جولة عربية. سارع للاتصال بالإعلامية المخضرمة هيام حموي، وعصمان الحناوي شقيق المطربة السورية.
دعاهما إلى بيته الكائن في شارع الباكستان. وبعدما شربوا قهوة بطعم المرار الذي تتذوقه الشام هذه الأيام، أسمعهما الأغنية مسجّلة بصوته على العود. هنا لم تتمالك «عميدة الإعلام السوري المسموع» من إمساك تأثرها. طلبت منه أن يسجّل رسالة بصوته إلى ميادة. هذا ما فعله «حارس الأغنية السورية» بجهد مضن، متناسياً آلامه، وتهدّجات صوته، كي يتمكن من الكلام باختصار ويقول: «عزيزتي ميادة أتمنى أن تعجبك هذه الأغنية، كما آمل أن أسمعها بصوتك لتكون المحطة الأخيرة قبل الرحيل». لكن فجأة انقطع الإرسال! وبينما كانت تحط طائرة صاحبة «أنا بعشقك» على أرض دمشق، كان سهيل عرفة قد وضب عدة السفر الأزلي ورحل متخطياً مرضه اللئيم، من دون أن يتيح له تضارب المواعيد تحقيق آخر أمنياته.

وضع لحن واحدة من
الأيقونات الوطنية:
«من قاسيون أطلّ يا وطني»


في «مستشفى الطلياني»، أسدل عرفة الستار مساء الخميس. وشّيّع أمس من المستشفى ليصلى عليه في جامع «لالا باشا» (شارع بغداد) ويوارى ثرى «تربة الدحداح» في الشارع ذاته، فيما يتلقى ذووه العزاء على مدار ثلاثة أيام اعتباراً من اليوم (بين الساعة 5-7 مساء) في «صالة الأكرم» (آخر أوتستراد المزة).
من «حيّ الشاغور»، انطلقت مغامرة الطفل الدمشقي، الذي كان يقطع حارات مدينته الضيقة في الأربعينيات، متأبطاً يد والده كي يزور بشكل دوري الجامع الأموي. لم يكن يعنيه شيء أكثر من تراتيل المنشدين التي تسحره، كونها المنفذ الموسيقي الوحيد المسموح للعائلة المحافظة. في محلّ تصليح الرديوات المعطّلة في حي السنجقدار، كان الطفل اليافع يتحيّن لحظة بث الفواصل الغنائية على الإذاعة، ليستمع إليها بمزاج مختلف. لن يمر وقت كي يعيد المشهد التقليدي صياغة نفسه لهذا الطفل الذي يجمع من مصروفه مبلغاً ويشتري عوداً، فيحيله الوالد المحافظ حطاماً. ثم يكرر المحاولة، فيأتيه الجواب ذاته، كأنه يتلقى أولى صفعات الحياة بذريعة التقاليد والعادات. ذات يوم، استمع الفنان عبد العزيز الخياط والد الموسيقار أمين الخياط إلى عزفه، فدعاه بثقة إلى مجلسه الذي كان يحضره أمير البزق محمد عبد الكريم، والفنانون عدنان قريش ورفيق شكري ونجيب السراج الذين قدموه إلى إذاعة دمشق أيّام عصرها الذهبي، حين كانت قبلة لكل الفنانين العرب. هناك، قدّم لحنه الأول لمغن مغمور حينها يدعى فهد بلان، وقد كانت تمجيداً للوحدة مع مصر وزعيمها جمال عبد الناصر. وبعيداً عن محاولته في الغناء، وتعيينه لاحقاً كرئيس فرقة موسيقية لدى هيئة الإذاعة والتلفزيون سنة 1974، بدأ الراحل موسم قطافه منذ أن اجتمع بنجاح سلام ولحن لها أغنيات عدة، قبل أن يلتم على حليم الرومي، ويصطحبه إلى لبنان، تمهيداً للقاء صباح والتعاون في أغنية «من الشام لبيروت» التي كانت مجرّد تحمية للشهرة الطائلة التي حصدها سهيل عرفة بعد تعاونه الثاني مع «الشحرورة» في «ع البساطة» من فيلم «أهلاً بالحب» (1968). كرّت بعدها سبحة النجاحات والأغاني الأيقونية، ومنها أشهر القدود الحلبية ورائعة أبو خليل القباني «يا مال الشام» التي غنّاها «بافاروتي حلب» صباح فخري، وأصل القدود «يا طيرة طيري يا حمامة» التي لحّنها لشادية، «وسكابا يا دموع العين» لشريفة فاضل، و«يا غزالاً عنّي أبعدوك» لنجاة الصغيرة، و«قدّك الميّاس» لطروب. كذلك سيتمكّن من إحلال وقع استثنائي من خلال لحن أغنية رافقت لحظات الفقد الأولى، عند شريحة كبيرة من المستمعين وهي «راحوا الغوالي يا دنيا» التي شداها الراحل وديع الصافي، وتم تداولها بكثافة في الساعات القليلة الماضية أثناء نعي الموسيقي السوري.
على ضفة موازية، تمكّن سهيل عرفة من خلق مساحة مدهشة للأغنية الوطنية بصورة مغايرة للكليشيه المعروف عن هذا النوع من الغناء، عندما وضع لحن واحدة من الأيقونات السورية الوطنية وهي: «من قاسيون أطلّ يا وطني» لدلال الشمالي. فكيف لمن يذكر الشام اليوم وهي في محنتها الكبرى، ألا يستحضر بشغف اسم سهيل عرفة؟ هو الذي عرف صوغ موسيقى أجمل ما قيل في جبل قاسيون بوابة دمشق الثامنة. ورغم عمله في الموسيقى التصويرية للدراما التلفزيونية والسينما، إلا أنه كان يسأل دائماً عن سبب غياب الاهتمام بالأغنية السورية بشكل يوازي الاهتمام بالدراما؟! جمهور ابنة الموسيقار النجمة أمل عرفة ومتابعوها على السوشال ميديا كانوا يعرفون بأنّ ساعات والدها باتت معدودة من خلال تصعيد حالة الدعاء العلني له عبر صفحتها على الفايسبوك. لذا لم يكن الخبر مفاجئاً عندما نعته بالقول: «أبي تحت جلدي، وقلبي يغلفه الرماد.. الله معك يا حبيبي ورفيقي وسندي.. منذ اليوم ستنام بسلام». هكذا، تحوّل الموقع الأزرق بصفحاته السورية إلى خيمة عزاء مفتوحة، شكّل نجوم الدراما السورية روادها بينهم الكاتب سامر رضوان، والمخرجان رشا شربتجي، وسيف الدين السبيعي، والممثلون فادي صبيح، وأيمن رضا، وعبد المنعم عمايري، وسلمى المصري، وشكران مرتجى، وصفاء سلطان، وميلاد يوسف، وعلاء قاسم....