تقلّ في العالم العربي المراجع التي اهتمّت بالعلاقة بين طائفة الإنجيليين في الولايات المتحدة وبين إسرائيل، والدعم الذي توفّره المؤسسة الدينية الخاصة بهذه الطائفة للصهيونية، منذ ما قبل قيام إسرائيل في فلسطين وحتى الآن.
إختار الأكاديمي والباحث اللبناني، وسام معكرون، أن يولي هذه القضية اهتمامه، محاولاً الإجابة في كتابه الصادر بالفرنسية «الإنجيليون الأميركيون، الشرق الأدنى، ونهاية العالم»، عن أسئلةٍ عدة في هذا المجال، أبرزُها حول الخلفية الثيولوجية لهذه العلاقة، ومحاولة تبيان الأسباب الدينية ـ التاريخية الكامنة خلف دعم فئات واسعة من الشعب الأميركي، من منطلق ديني لفكرة قيام وطن لليهود، وهو الدعم الذي يوفّر «شبكة أمان» مالية وسياسية وعسكرية وثقافية لدولة الاحتلال.
الكتاب الصادر عن «جامعة القدّيس يوسف» في بيروت، يقارب «الحساسية الدينية البالغة الخصوصية تجاه اليهود». حساسية مثّلت ظاهرة مثيرة للتحليل، وفقاً لما يذكره المؤلف في مقدمة كتابه، بهدف دراسة الأسباب الدينية لهيمنة دعم قيام دولة يهودية في المجتمع الأميركي. ولأن الزاوية تنحصر بهذه الحساسية فقط، يمكن تبرير إهمال الكاتب للتحليل المادي لهذا الدعم، أي تجاهل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي هيّأت الأرضية لتوفير هذه الشريحة من الأميركيين الدعم المتواصل للكيان الصهيوني.
وعلى الرغم من أن مسألة دعم اليمين المسيحي لإسرائيل حجزت حيّزاً لها في الإعلام العربي، لا سيما مع ولاية جورج بوش الابن، وانطلاق عصر «الحرب على الإرهاب» بعد عام 2001 وتكريس الخطاب المعادي للإسلام في تلك الحقبة، فإنه من المهم البحث في الجذور الدينية والميثولوجيّة، إن جاز التعبير، لواقعٍ سياسي أساسي في الولايات المتحدة في هذا الوقت تحديداً. وقتٌ تمثل فيه الأصولية الإسلامية محور الاهتمام العالمي، للإضاءة على أصولية دينية أخرى، كانت وراء دينامية سياسية محورية في العالم، وأسهمت في خلق واحدة من أكبر القضايا السياسية المعاصرة استعصاءً، وهي احتلال فلسطين.

النص الديني كسيناريو قَدَريّ

إلى جانب اللوبي اليهودي القوي في واشنطن، لعب الإنجيليون المحافظون دوراً بارزاً في دعم الصهيونية بدايةً ثم استطاعوا عبر عملٍ منظم واسع النطاق الضغط لمصلحة إسرائيل. ولكن لماذا شعر الإنجيليون الأميركيون بأنهم معنيون إلى هذا الحدّ بقدر الدولة اليهودية، وما هي نتائج هذا الأمر؟
إن الإنجيلية، كما هو معروف، هي مذهب خارج من حركة الإصلاح البروتستانتي، وتقوم بالدرجة الأولى على التمسك الحرفي بالنصوص والكتابات الدينية. في ندوةٍ حول الكتاب نظّمها أخيراً قسم الفلسفة في «جامعة القديس يوسف» في بيروت، يوضح معكرون أن الارتباط الوثيق لمعتنقي هذا المذهب بالكتاب المقدّس (بشقيه اليهودي والمسيحي)، هو ما يقف أساساً خلف دعمهم لـ«فكرة» إسرائيل قبل قيامها ثم توفير الدعم لبقائها. يستند هذا الدعم بشكلٍ رئيس إلى تأويل النصّ الديني، وفقاً لمنهجٍ محدد يرى التاريخ مسرحاً لسيناريو إلهي، مكتوباً في الإنجيل بعهديه القديم والجديد. التيار الذي فسّر الكتاب المقدّس بحرفيته، وأخذ ينتظر تحقق النبوءات المدوّنة، لا سيما في كتب الأنبياء (العهد القديم) ورؤيا مار يوحنا (العهد الجديد) التي تتضمن نبوءة نهاية العالم، هو التيار التدبيري أو القَدَري، الذي تتحدر منه «الصهيونية المسيحية». ينظر الإنجيليون المحافظون إلى اليهود كـ«وكيل» للتاريخ ومحرّك له، وبمصيرهم يرتبط مآل البشرية وتتحقق نبوءات النصوص الدينية.
يوضح معكرون أن التأويلات الإنجيلية لنصوص سفر التكوين وحزقيال ودانيال ولرؤيا يوحنا، تغذّي نظرة الإنجيليين للتاريخ، والإيمان بأن «قيام إسرائيل وبناء هيكل أورشليم» هي أحداث «ستسرّع المجيء الثاني للمسيح الذي سيأتي لإحلال السلام والعدالة في العالم».

إعلان قيام وطن لليهود، ليس في نظرهم، إلا عاملاً يسرّع «رزنامة النبوّة»

بالنسبة إلى التدبيريين، إن هذا المجيء لن يتم إلا بعد فترات من الأزمات والمآسي، ما يحيلنا من جديد على رؤيا يوحنا. إذاً المذهب التدبيري، يقسم الإنجيل والتاريخ إلى سلسة مراحل، على أساسها يقرر الله قدر الإنسانية ويتفاعل معها. وما هو مركزي أيضاً في عقيدة هذا التيار داخل المذهب الإنجيلي، هو الفكرة القائلة بأن الله لديه تقويمان زمنيان منفصلان: واحد مرتبط بالشعب اليهودي، وآخر بالكنيسة. وبحسب هذه العقيدة، عندما يرفض اليهود الاعتراف بيسوع الناصري، يقرر الله تأخير مجيء المسيح.
مؤسس «التيار التدبيري» داخل الطائفة الإنجيلية، هو البريطاني جون نلسون داربي، الذي قام عام 1870 بعدد من الرحلات الى الولايات المتحدة، حيث استطاع أن يكرس شيئاً فشيئاً هذا التيار، مع العلم بأنه تعرض للكثير من المقاومة في البداية. وخلال 50 عاماً، بعد سلسلة من المؤتمرات، ومن انتشار المجلات، ومن انجذاب شخصيات بارزة لهذا التيار، كسب هذا الأخير شرعيةً على امتداد البلاد.
شخصية رئيسية أخرى ساهمت في انتشار هذا التيار وتكريسه هو دوايت مودي، مؤسس Moody bible institute في شيكاغو. روّج مودي لتأويل تدبيري للإنجيل، في مؤلّف وُزع على نطاق واسع. لكن الأصوليين لم ينخرطوا بسرعة في الحياة السياسية، إذ انسحبوا منكفئين إلى التركيز على مراكز المعرفة الأساسية مثل دور نشر والمدارس والإذاعات والمنظمات التبشيرية. وهو ما يذكّر بنمط عمل التنظيمات الإسلامية التي اعتمدت على العمل الاجتماعي بشكل كبير قبل إمكانية الدخول المباشر في السياسة. وبين السبعينيات والثمانينيات، تمكن الإنجيليون المحافظون من الهيمنة على الحزب الجمهوري، قبل أن يدخلوا الحياة السياسية الأميركية مع انتخاب جيمي كارتر ثم يعرفوا ذروة نفوذهم مع رئاسة رونالد ريغان وما بعدها.

تبلور دعم الصهيونية

اهتمّ الكثير من الإنجيليين في الولايات المتحدة بالمشروع الصهيوني منذ بداياته. على سبيل المثال، يُعدّ وليام بلاكستون، رجل الأعمل والمبشّر الآتي من شيكاغو، أحد «آباء إسرائيل» من غير اليهود. يشرح معكرون أن بلاكستون تبنّى الرؤية التدبيرية للدين والعالم، وانحاز باكراً لقيام وطن لليهود، فنشر مع مودي مؤلفاً اسمه «يسوع آتٍ» عام 1878، تُرجم إلى 42 لغة. بعدها بعامين، زار الرجل فلسطين، قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة ليقدّم أولى ندواته في جمعية «مسيحيون ويهود». الندوات التي دعمت بشدّة قيام إسرائيل، لم تلقَ صدىً واسعاً في البداية بين الأميركيين الذين لم يكونوا قد تآلفوا بعد مع الفكرة غير السائدة آنذاك.
ولكن يمكن القول إن بلاكستون (الذي أهداه الإسرائيليون غابةً باسمه في فلسطين عام 1957 كشكر على دعمه) كان أوّل من أطلق الفكرة على المستوى الشعبي في أميركا، وتابع ذلك برغم قلة التجاوب معه. بعد فترة، نشر عريضة جمعت أكثر من مئتي توقيع لشخصيات أميركية بارزة سياسية وقضائية، تدعم قيام وطن يهودي في فلسطين. قدّمت العريضة للرئيس بنجامين هاريسون، الذي تجاهلها، فكرّر بلاكستون المحاولة مع روزفلت وويلسون من دون جدوى، حتى مجيء هاري ترومان إلى الحكم عام 1948.
مع إعلان وعد بلفور، رأى الإنجيليون المحافظون في الأمر «انتصاراً شخصياً». إعلان قيام وطن لليهود، ليس في نظرهم، إلا عاملاً يسرّع «رزنامة النبوّة» للوصول إلى إعلان عودة المسيح ونهاية العالم. مع إعلان قيام دولة الاحتلال، رأى هؤلاء أن هذا الحدث «هو الأهم منذ عام 70 بعد الميلاد، سنة تدمير الهيكل»، وفق النصوص التوراتية.
يشرح معكرون في كتابه كيف تنامت المنظمات الإنجيلية الأصولية وتوسّعت على امتداد الولايات المتحدة واستطاعت نشر هذه الأفكار، وضم عشرات آلاف الأعضاء وجمع ملاييين الدولارات. تلك المنظمات مثّلت مجموعات ضغط كبيرة على الإدارة الأميركية، وظهرت فعاليتها مثلاً خلال حرب السويس (1956)، حين وجهت انتقادات للرئيس دوايت أيزنهاور بعد طلبه بتراجع الإسرائيليين من سيناء، معتبرين أن طلب أيزنهاور «قرار يعارض ما يرسمه الله». حتى أن تلك الأفكار الأصولية لاقت طريقها إلى الصحافة الليبرالية الأميركية التي لمّحت بعد النكسة عام 1967 والسيطرة الإسرائيلية على البلدة القديمة في القدس، إلى أن «الله يدير الأمور ويتزعم مصير إسرائيل».
ومن الأحداث المؤسسة لتنامي التحالف بين الطرفين، المؤتمر الذي نظّمه كارل هنري، رئيس تحرير موقع «المسيحية اليوم» (Christianity today) عام 1971 في القدس، شارك فيه 1500 مندوب من 32 بلداً برعاية بن غوريون، وفيه أُعلن بداية التحالف الرسمي بينهما.
ومع وصول الليكود إلى السلطة في إسرائيل عام 1977، سنرى المزيد من التودد الإسرائيلي لوجوه بارزة لدى اليمين المسيحي الأميركي، مثل القسّ المعمداني الأصولي جيري فالويل، إلى جانب أورال روبرتس، تيم لاهي وجون هاغي، وهي كلها شخصيات إنجيلية بارزة معروفة بدعمها للسلطات الإسرائيلية وعملها معها.
وبين السبعينيات والثمانينيات، رأينا تنامي الضغط على الإدارة الأميركية والمزيد من الرسائل إلى الكونغرس والتظاهرات الداعمة لإسرائيل والرافضة لأي نقد لها ولجرائمها. وفيما حاربت منظمات أصولية معظم «مقترحات السلام» في المنطقة التي سادت في تلك الفترة، عارض جيري فالويل اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، لأنها «غير ذي جدوى وستبوء بالفشل الحتمي». وهي المجموعات نفسها التي دافعت عن الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، ونظمت تظاهرات في واشنطن واشترت صفحات إعلان في صحيفة «نيويورك تايمز» للترويج له، والأمر نفسه حدث مع الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. وتجدر الإشارة إلى أن آثار هذه الأصولية ظهرت بصورة أساسية في صعود المحافظين الجدد إلى السلطة مع رئاسة جورج بوش الابن، ولا شكّ في أن أفكاراً من نوع ضرورة التدخل العسكري الأميركي في الخارج «حتى ينتصر الخير» في عالمٍ منقسم بين «أخيار وأشرار»، والتي وسمت عهد بوش، ليست سوى صدى لتلك القناعات الإنجيلية.




رحلات «الحج»

لعبت منظمات إنجيلية أصولية عدّة أدواراً رئيسية في الضغط لتحقيق مصلحة إسرائيل ولنشر أفكار داعمة للصهيونية ومعادية للإسلام. من هذه المنظمات نذكر Christians united for Israel للقس جون هاغي، وهي منظمة ينتمي إليها نحو 20 ألف عضو، وتجمع ملايين الدولارات كل سنة. وهناك
International fellowship of christians and jews ، وstand for Israel، وهما جزء من المنظمات التي تعدّ وقفات للصلاة لأجل إسرائيل، وليلة لتكريم إسرائيل، وتجمع تبرعات للحكومة الإسرائيلية تصل إلى ملايين الدولارات. وهناك منظمات أخرى تحمل اللواء ذاته، لكنها لا تحظى بالكثير من التغطية الإعلامية. وبرغم ذلك، استطاعت التأثير في المجتمع الأميركي عبر الندوات والمؤتمرات التي تعدّها. من دون أن ننسى رحلات «الحج» الدينية التي تسيّرها هذه المنظمات إلى مدينة القدس لأناس يريدون «أن يمشوا حيث مشى المسيح»، وتدرّ عائدات هائلة لإسرائيل.