لم يعد عتب حزب الله ولا سخطه قادرين على وقف سقوط البديهيات، وما ورثه أبناء فلسطين عن آبائهم من معتقدات ومحرمات اتسمت بالثبات واليقين الجازم. التناقض الظاهر وفي الجوهر بينه وبين حركة «حماس» خرج من المجال اللساني اللغوي إلى القيم بوصفها إشهاراً لتطلعات السماء، أو شكلاً من أشكال المسؤولية التي أرسى معالمها عقل الإنسان ومشاعره وتجاربه المليئة بالتضحيات، يسدد بها نظام مصالحه، ويستهدي بها إلى غاياته وآماله.
مع صدور الوثيقة السياسية الأخيرة لـ«حماس» بدت العلاقة وكأنها تسير باتجاه القطيعة الثوريّة. فبعد نشوب الأزمة السورية وما رافقها من إشكالات كبيرة في أدوات التحليل والاستنتاجات، ثم فكّ ارتباط الحركة المحسوبة على جماعة «الإخوان المسلمين» بمحور المقاومة والتحاقها بالمحور السعودي القطري التركي، تخرج «حماس» من الدوحة بنموذج جديد كما صرّح رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل، تنقلب فيه على المنطق التقليدي للصراع. تنظر إلى ما هو كائن فعلاً، ضمن مفهوم التوازنات والمعادلات الدولية والإقليمية وموازين القوى التي ترجّح بطبيعة الحال كفّة إسرائيل، في تغاضٍ فجّ عن الحقائق التاريخية، وتراجعٍ عن فكرة تحرير كامل الأرض المحتلة، والبحث عن الخيارات الواقعية والبدائل المرحلية. وتنظر إلى ما يجب أن يكون، من بوابة الاستيلاء على مكاسب السلطة، وتوسيع دائرة العلاقات مع الخارج التي تفرضها متطلبات ومعطيات تدعيم السلطة نفسها وتأمين مستلزمات بقائها وديمومتها. بالإمكان جداً فهم هذا «التطور والتجدد والمرونة» وما أسماه «أبو الوليد» أيضاً: الانفتاح الواعي. فالآن، وبعد كل هذه الصيرورات والمتغيرات منذ ما يسمى «الربيع العربي»، وجدت «حماس» أن تباشر نسقاً من الميول الواقعية ــ البراغماتية تعالج من خلالها مجموعة مآزقها بل أخطائها في تفسير التطورات، على أساس الضرورة التي تبيح المحظورات، وعلى سلسلة من التبريرات التي تراعي متطلبات الأحكام الملكية والفرمانات السلطانية. فأبو الوليد الذي انتقل بحركته من دمشق إلى الدوحة، أثار في مؤتمره الصحافي الأخير استفهامات ساخنة عكست في جانب منها التأثر الواضح بالمبادرات والحلول المطروحة لتصفية القضية الفلسطينية. لقد بانت على صفحات وجهه وتعابيره كيف أنه مأخوذ بالدوافع النفعية التي يظن أنها ستجلب له ولفلسطين الحظ، وكأنّ تجربة «أوسلو» غير كافية لتغلق كل الأوهام حول مسار التسوية وتكاليفه الباهظة والكارثية على القضية وحقوق الشعب الفلسطيني.
هكذا تتغير التوجهات السياسية وتبدأ حقبة التسوية بذريعة «الانفتاح الواعي» التي تُخضع القضية المركزية الاستراتيجية للمناورات وما يسمى «تجزئة الصراع» التي تمخّضت عنها سابقاً سلسلة لا نهائية من التنازلات. وهكذا تنطلق «حماس» من مركزية الصراع إسلامياً وعربياً إلى أولوية تنظيم الاجتماع الفلسطيني. ومن المضمون العميق لمنظومة المقاومة إلى المفهوم الجدلي السطحي حول رد الاعتداءات الإسرائيلية لو وقعت، ومن فلسطين كاملة من البحر إلى النهر إلى حلّ الدولتين، ومن الدفاع عن كل فلسطين إلى الدفاع عن مصالح الدولة وسيادتها على الكانتون المسوّر بالأسلاك الشائكة والجدران الإسمنتية، ومن استراتيجية مبدئية إلى تكتيك عملي. فهل يحتاج الأمر إلى تذكير بمآل منظمة التحرير الفلسطينية التي قدمت تنازلات لم تكن تخطر على بال والنتيجة كما نراها اليوم؟ هل يحتاج الأمر إلى التذكير كيف تحوّلت منظمة التحرير إلى منظمة للتسوية؟ وكيف تحوّلت الواقعية الثورية إلى سياسة الأمر الواقع؟ هل نذكر بقول لجون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الراحل بـ«أنّ حلّ المشكلة الفلسطينية لن يأتي إلا على مرّ الزمن حين يظهر جيل من الفلسطينيين جديد متحرر من الارتباط بفلسطين ومن ذكرى أرضها وماضيها». وبحسب منطق حلّ الدولتين، فإنّ فلسطين «المتوهمة» لا تشبه فلسطين القديمة تراباً وتراثاً بشيء، كما أنّ قيادات فلسطين اليوم لا تمكن مقارنتها بتلك القيادات التي رفضت التوقيع على مبدأ تقسيم فلسطين عام 1947، رغم أنّه أعطاها 43 % من المساحة الأصلية!

باشرت «حماس» نسقاً من الميول الواقعية ــ البراغماتية

إنّ التطور الذي افتخر به السيد خالد مشعل هو ليس إلا حراكاً داخل المتاهات نفسها التي أوصلت منظمة التحرير إلى هذا الواقع البائس والعقيم. وأرى أنّ السمّ نفسه الذي تجرعه أبو عمار ومات به، يتجرعه خالد مشعل ويوهم نفسه أنه لن يموت به أبداً. السمّ الذي اسمه الواقعية وغيّر منظمة التحرير، يغير اليوم حماس التي جاءت الهبات الملكية لتغيّر قادتها وتحوّلهم إلى فئة تنزع إلى التسويات بدلاً من التصرف بإباء وكبرياء مع الحق الذي لا يمكن لمن يمتلك القوة أن يسلبه أبداً. تصرفت حماس في وثيقتها كما لو أنها نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. كما لو أنّ اقتصاداً تبدده، وإرثاً تضيّعه، وأملاً تتخلى عنه بحجة أنّ الطريق الآن مليئة بالأوجار. وعلى هذا الضوء، باتت المقاومة، بحسب استنتاجات قيادة الدوحة وكشوفاتها العلمية الجديدة، نتاج مخيلة اجتماعية تاريخية عابرة، وليست فعلاً عبادياً مقدساً يعاند آثار الزمن والتقلبات. وما عادت حقاً مشروعاً لاسترداد كرامة مهدورة وحرية مفقودة وأرض مغتصبة. باتت المقاومة كما لو أنها تسلّق، تطفّل مبرر، شطارة من شطارات الطفّار والمتمردين، تذاكٍ لدفع نقمة قبل الوصول إلى محفليّة «الدولتين»! هكذا تنتهي مقاومة «حماس» بعدما انتشرت «الروليت القطرية» بين الجماعات والحركات الإخوانية، إلى حدود، ودولة، وسلطة، واستقلال وطني، ودولة افتراضية، وإمكان ذهني لا إمكان خارجي واقعي، في تبدّل بصري عجيب، وتأويل لنصّ القضية أعجب، تماماً كما فعلت «فتح» حين ارتضت «سلاماً» أعرج تحت منطق الواقعية الثورية، فإذا بالسلطة على ضحالتها تصبح حظها الأخير!
لا أسمي ما وصلت إليه «حماس» انحداراً، بل هو السقوط بعينه. نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم ردّ سريعاً حين قال: «إنّ المقاومة إذا لم تكن من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر فهي لا تنفع». وهذا يعني أنّ الانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي وكسب المزيد من الأنصار بحسب ما ورد على لسان السيد مشعل في مؤتمره الصحافي، لا قيمة له من غير إعارة الاهتمام لقضية التحرير، ولا معنى له مع تأكيد سياق أوسلو وشرعنته كإطار سياسي يمنح الأرض للعدو في مقابل سجن عنصري أو بانتوستان تحلّ فيه حماس في موقع الإدارة. حزب الله يصرّ على اعتبار أنّ أيّ حركة مقاومة فلسطينية ستسقط عندما تدجّنها الميول الواقعية والنزعة الدنيوية وحين تبلغ تناقضاتها حدّاً تجيز معها تقديم الأضاحي للأوثان الاستعمارية، وسادة القبائل العربية، الذين يعيشون خارج التاريخ ومجمل منظورهم للقضية الفلسطينية يتمحور حول التسوية وإنهاء الصراع.
إنّ حزب الله يرى ضرورة وعي ماهية الصراع على أساس أنّه صراع دائم بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وكذلك وعي جوهر المقاومة وصيرورتها وغائيتها وتاريخيتها، واعتبارها منظومة متفاعلة من العلاقات والمصالح، من التضحيات والإنجازات. المقاومة ثورة دائمة ودينامية تاريخية وعملية وإيمانية لا تتوقف لمحاباة أحد حبّاً أو تعصّباً، ولا تضعف أمام إغراءات المال والسلطة وتسويغها شرعياً بكونها أنماط تفكير و«تجدد» كما أحبّ السيد خالد مشعل أن يسميها! لا بأس هنا بالإشارة إلى كلام للرئيس الراحل جمال عبد الناصر من باب أنّ الحكمة ضالة المؤمن. فهو يقول: «إنّ قطعة من الأرض العربية قد تسقط تحت الاحتلال... لكن أيّ قطعة من الإرادة العربية ليست عرضة لأي احتلال». المعضلة إذاً كامنة في إرادة قيادة حماس التي سقطت مشدوهة ومفتونة بالربيع العربي بداية، ظناً منها أنّ عصر «الإخوان المسلمين» قد حان، وتالياً بالجاذبية القطرية التركية، وثالثاً بالمنافقين المتغزلين الذين أحاطوها بالحب الكاذب والمكر الكثير، فاندفعت سادرة تائهة خارج الأصالة والفرادة التاريخية للشعب الفلسطيني المقاوم. فجاء حل الدولتين أكثر إثارة مع «الناتو الإسلامي» الذي يريد مؤسسوه مشاطرة إسرائيل بمسرّاتها وهي تدخل قصور العرب وبلدانهم من أوسع الأبواب. لا أدري ربما السلطة تجعل المرء يدور حول نفسه ويتيه في لون من نشوة لا توصف. لكن في مكان آخر لا شيء قد انتهى تماماً. الفلسطينيون على معاناتهم، وإسرائيل هي إسرائيل التي تحول دون إقرار التسويات على علّاتها. ربما يستحسن العودة ولو من ناحية وجدانية وواقعية وتاريخية أيضاً إلى كلام لجون دافيز المفوض العام الأسبق لوكالة الإغاثة الدولية، الذي يقول: «إنّ الصهيونية هي علّة النزاع وإنّ اقتلاع جذور الصهيونية من إسرائيل هو أساس الصلح في المستقبل»! فمن يقول لحماس إنّ دعابتها المسماة «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» ليست سوى مقامرة بالقضية وبتاريخ آلاف المقاومين والشهداء الفلسطينيين. من يقول لها: إنّ هذه الوثيقة خطوة عقيمة وسقيمة وسبيل وعر لن يفضي بأصحابه إلا إلى الوحشة والتمزق ومرارة الخيبة. وإذا كان المقاومون الحمساويون وغيرهم من الفصائل الفلسطينية المختلفة، ومعهم كل المقاومين العرب لم يفصحوا كفاية عن امتعاضهم فلأنهم شعروا أنّ «حماس» ــ جناح الدوحة، ومنذ اندلاع الأزمة السورية قد فضّلت الخروج من الخنادق إلى الفنادق، والحوار معها كمن يداوي رجلاً من خشب!
* كاتب وأستاذ جامعي