منذ الساعات الأولى لاندلاع الأزمة الخليجية الحالية، بدا واضحاً أن الساحة اليمنية ستشكل مختبراً للخلاف القطري ــ السعودي ــ الإماراتي المستجد. لم تكد تمر فترة وجيزة على بدء الرياض وأبوظبي هجومهما الإعلامي على الدوحة، حتى دخلت «الشرعية المتشظية» على الخط، ناشرة عبر وكالة «سبأ» الرسمية، بنسختها التابعة للرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي، رسالة تضامن مع قطر، لتعود لاحقاً وتسحبها تحت ما قيل إنها «اتصالات من الرئاسة وجهت بذلك»، وهو ما فُهم منه انقسام «الشرعية»، المنقسمة أصلاً، ما بين جناح «إخواني» يصطف تلقائياً مع الدوحة، وجناح سعودي يتريث في حساباته ريثما تتضح مآلات المعركة.
انقسام انعكس، أيضاً، على مستوى الناشطين والإعلاميين وحتى المواطنين خصوصاً في الجزء الجنوبي من البلاد، قبل أن تؤججه عودة رئيس حكومة هادي، أحمد عبيد بن دغر، ومحافظ عدن، عبد العزيز المفلحي، إلى مدينة عدن، وافتتاحهما فيها محطة كهرباء قطرية، ثم قيام المفلحي بالتوجيه برفع صورة عملاقة لأمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، في أحد الشوارع الرئيسية للمدينة، في بادرة فُسرت بضغوط على المفلحي من قبل «الجناح الإخواني»، الذي يرى أنه صاحب الفضل الأول في ترشيحه لمنصب محافظ عدن.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن ساعات ليل الثلاثاء ــ الأربعاء شهدت مواجهات في مطار عدن الدولي، تنذر بأن «الكباش» الإقليمي المستجد سيتخطى الركلات السياسية والإعلامية إلى الجانبين الأمني والعسكري. بحسب المعلومات، فإن الاشتباكات التي أدت إلى إغلاق المطار، وخروج منظومة الكهرباء نهائياً عن الخدمة، اندلعت بين قوات حماية مطار عدن، التي يقودها صالح العميري (أبو قحطان)، المحسوب على الإمارات، وقوات نائبه، الخضر كردة، الذي عينه قبل فترة وزير داخلية هادي، حسين عرب، الميال إلى «الجناح الإخواني».
واللافت أن الاشتباكات تزامنت مع إعلان للقاء جمع ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، برئيس «المجلس الانتقالي الجنوبي»، عيدروس الزبيدي، ونائبه، هاني بن بريك، بحضور وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش. لقاء من شأنه تأجيج غضب الدوحة، التي ترى أنها تمكنت من وضع العصي في دواليب مشروع «الانفصاليين»، إن عبر الهجمة «الإخوانية» الشرسة والتسقيطية على الأخيرين، أو عبر الحملة الإعلامية التي بلغت ذروتها في حلقة من برنامج «الاتجاه المعاكس» على قناة «الجزيرة»، تناولت قضية جنوب اليمن (بعد تغييب لنحو 9 سنوات)، وتضمنت انتقادات لاذعة للإمارات، التي سرعان ما بادرت في الرد بحجب موقع «الجزيرة» الإلكتروني.
رد أبوظبي سيتجاوز، على ما يبدو، بالاستفادة من زخم المعركة المشتركة مع السعودية ضد قطر، التحرج السابق من إغضاب الرياض. هذا ما توحي به محاولات الإمارات لإعادة إطلاق يد رجلها في الجنوب، هاني بن بريك، الذي أقيل من منصبه وأحيل على التحقيق قبل فترة. إذ يعتزم الإماراتيون تدشين مركز علمي للسلفيين المحسوبين عليهم، والذين يقودهم بن بريك، في عدن، كذراع دينية بمواجهة «سلفيي السعودية» و«إخوان قطر» في آن واحد. كذلك لا يُستبعد تصاعد عمليات الاعتقال والتعذيب في سجون «الحزام الأمني»، المحسوب على الإمارات، برعاية بن بريك الذي هدد بـ«منع من يقدح في السعودية والإمارات والبحرين والسودان ومصر من دخول الجنوب».
لكن، هل تسمح السعودية للإمارات، انطلاقاً من المصلحة المتبادلة في المعركة ضد قطر، بالتمادي في تعزيز قوة أذرعها جنوبي اليمن، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية انفلات الزمام من يد الرياض، وخروج الأدوات التي تستخدمها في صراعاتها من عباءتها، خصوصاً أن تلك الأدوات لا تخفي مناوءتها للسعودية واستعدادها لقلب الطاولة حال توافُر الأسباب لها؟ حتى الآن، لا يبدو أن السعودية مستعدة للتفريط بعلاقتها التاريخية بحزب «الإصلاح» الذي تولت على مدى عقود تسليحه وتمويل جامعاته ومعاهده الدينية. وهي، في هذه النقطة، تظهر متوافقة مع قطر، إذ إن كلتيهما تتشاركان دعم الفصائل العسكرية والأجهزة الأمنية التي تقودها شخصيات من «الإصلاح» لتقوية نفوذها في المحافظات الجنوبية ومحافظتي تعز ومأرب.
وفيما تفتح قطر أبوابها، بشكل متواصل، لقيادات «الإصلاح» التي تكررت زياراتها للدوحة في الأشهر الأخيرة، ولا سيما نائب الرئيس المستقيل، علي محسن الأحمر، توفّر الرياض ملاذاً آمناً لقيادة «الإصلاح» السياسية والعسكرية على الأراضي السعودية، بالإضافة إلى وسائل الاتصال وحرية التنقل بين القيادة «الإخوانية» في الرياض وبين رجالها في الميدان اليمني. وعلى المستوى السياسي، ترعى السعودية الاتفاق السياسي بين حزب «الإصلاح» والرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، وتعمل دائماً على تثبيته وصيانته، على الرغم من أن التحالف المذكور يشكل خسارة للرياض في جنوب اليمن، إذ إن أكثرية الجنوبيين ترفض رفضاً مطلقاً تحالف هادي مع «الإصلاح».
كذلك، تلتزم الدوحة الترويج الإعلامي لحزب «الإصلاح» ولخياراته السياسية والأمنية، على الرغم من أن الحزب يُتهم من قبل أطراف يمنية ومن قبل الإمارات أيضاً بأنه يعمل على استنزاف دول الخليج بالعتاد والدعم المالي، والاستحواذ على المناصب العليا في مفاصل «شرعية» عبد ربه منصور هادي. في المقابل، تذهب الإمارات بعيداً في معاداة «إخوان اليمن»، وترفض بنحو مطلق وحاسم أي تقارب معهم، بل تعدّهم عدواً حقيقياً أصعب من القوى الوطنية في الشمال، وعليه يسخّر الطرفان (الإخوان والإمارات) كل إمكاناتهما في حروب الإقصاء والإلغاء بينهما.
وكان التنافس السعودي الإماراتي قد بلغ ذروته، قبيل زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للرياض، بدعم أبو ظبي تشكيل «الانتقالي الجنوبي»، الأمر الذي رفضته الرياض بالمطلق، وعمدت إلى إفشاله، والحد من نشاطه، غير أن زيارة ترامب، وبروز الخلاف السعودي الإماراتي مع الدوحة، أديا إلى تأجيل الخلاف، فيما أُعطيت قيادة «الانتقالي» إجازة سفر للعديد من الدول، بانتظار تبلور صورة المرحلة المقبلة.
تعمل السعودية مع حزب «الإصلاح» باعتباره حاجة ميدانية وسياسية أملتها الضرورات الناتجة من الحرب، واحتياجها إلى حليف يمني يستند إلى رصيد شعبي في البلد، بعد فشلها في استمالة قبائل اليمن، ولا سيما في الشمال، غير أن الرياض تدرك تماماً أن «الإصلاح»، الذي نكث بعهوده معها في أعقاب «الربيع العربي» عام 2011، بعد 30 عاماً من الارتماء في أحضانها والحظوة الكبيرة الذي كان يُختصّ بها من قبل مسؤول الملف اليمني في المملكة، سلطان بن عبد العزيز، لن يتورع عن تكرار التجربة، وأن المصلحة الظرفية، فقط، هي ما تحكم الجانبين السعودي و«الإخواني» حالياً.
(الأخبار)