حمص | ليس سهلاً أن يستعيد وجه حمص ألقه، بعد إعلانها آمنة من المسلحين، بنحو نهائي. العمل المتواصل أمر يترتب على الحكومة السورية، بهدف استعادة ثقة الأهالي باستقرار حالة السلام التي عادت إلى الحيّ أخيراً. يمكن الآن من يرغب في زيارة «حمص الجديدة»، الاسم المتعارف عليه للحيّ، أن يدخل إليه من معبره الرئيسي. يجب على العابرين اجتياز مجرى نهر العاصي، والوصول إلى ما كان سابقاً «دوار المهندسين».
الرهبة هي الشعور الذي يعتري العابرين. فهُنا، وحتى وقت قريب، كان النهر فاصلاً طبيعياً بين أحياء حمص جميعها، والحي الواقع في أقصى غربها. يحضر وجه نهر العاصي المحترق، كشاهد متألم على بشاعة الحرب، بدءاً من الحدود اللبنانية، إلى ريف حمص الغربي، وصولاً إلى نقطة العزل بين حمص القديمة والوعر، وليس انتهاء بمدينة حماه المجاورة. ولا أحد يعرف ما يخفيه الشاهد الطبيعي في عمقه، بعد هول الأحداث التي مرت على هذه المناطق.

«الدراويش» vs «جبهة الحرامية»

«كل شيء انطوى كأنه ما كان»، تقول هديل. الفتاة العشرينية التي انتظرت بفارغ الصبر العودة إلى حيها. هو الذي ضاق بأهله المختلفين في الرأي مع مسلحيه. «أحنّ إلى جدران حي منزلنا، إلى الجيران... إلى الدرويش الذي كنا نهزأ به ونحن عائدون ظهراً من المدرسة. بعدما غادرنا منازلنا أصبحنا كلنا دراويش وامتنعنا عن الاستهزاء بأحد. ممنوع على الغريب أن يهزأ»، تروي. دفنت الفتاة أحزانها خلف جدران بيت عائلتها السوداء. لقد أحرقوا كل شيء في المنزل. غير أنها للمرة الأولى تتعانق مع أفراد عائلتها تحت سقف منزل يملكونه. تبدأ رحلة مشاهدات لا تنتهي، لعدد هائل من الناس بدءاً من دوار الحمراء، مروراً بدوار المهندسين. من هُنا يمكن أن تلحظ إزالة السواتر الترابية، بعد بدء أعمال الترحيل والإزالة، قبل 4 أيام من خروج المسلحين. ويمكن أن تلحظ أيضاً، ابتسامة عنصر من عناصر الحاجز يرد بوداعة وسكينة، بعد أيام طالت من السواد بين الحي وجيرانه. المرور بين الأبنية يوحي بالمزيد من المآسي. الكثير من الفتحات في الجدران، وأغطية استخدمت كستائر على عجل لتخفي خلفها أحلام مُلّاك هذه البيوت، ممن تعجّلوا في العودة قبل استكمال عمليات التأهيل. الريح تصفر وتحرّك هذه الأغطية، غير أن توقيت العودة غير مقلق، بحسب العديد من الأهالي، إذ إن الحر يبشّر بأشهر من العمل الممكن لاستعادة شيء من الحياة إلى هذه الشقق.
تتفاءل ميساء، معلمة اللغة الإنكليزية، بعودة الجميع، إذ إن العام الدراسي قد انتهى تقريباً، وهو ما كان يمكن أن يؤخر عودة الناس. عطلة الصيف واعدة، بالنسبة إلى أبناء الوعر، لعودة جيران الطفولة والوداعة إلى الحي، بحسب تعبيرها. تقود الامرأة سيارتها في شوارع الحي الزاخرة بعمال الأشغال وورش البناء. «رفضتُ الخروج من الحي حرصاً على منزلنا من السرقة، إضافة إلى عدم قدرة والديّ العجوزين على احتمال أوجاع النزوح»، تقول. مرات عديدة ندمت على صمودي في الحي، رغم الحرب التي عانيناها طوال سنوات، إضافة إلى الممارسات غير الإنسانية ممن تسميهم «جبهة الحرامية»، كناية عن عناصر «جبهة النصرة».

أين وثائق قصر العدل؟

فيما تنحصر نسبة الخراب في الحي بـ20% فقط، فإن تنظيف الحي من القمامة سيجري بالاشتراك مع منظمة اليونيسيف، بكلفة تبلغ 100 مليون ليرة، بحسب تقديرات المحافظة. قضاة القصر العدلي بدؤوا دوامهم في الطبقة الأولى، وسط تقديرات أيضاً عن الحاجة إلى 150 مليون ليرة لتأهيل المبنى. «الوثائق جميعها بخير وبعهدة الدولة السورية»، يعلنها محافظ حمص، مخففاً من قلق أصحاب الأملاك في المدينة. العمل المتواصل طوال 10 أيام أفضى إلى إجراء أول مكالمة من الخط الهاتفي الأرضي، وعودة مقسم الحي إلى العمل، إضافة إلى تأهيل سريع لقسم الشرطة. كذلك أقامت المحافظة مركزاً لتقييد الضبوط بحجم الأضرار، حيث تعوض الحكومة السورية على أصحاب المنازل المتضررة، ما بين 30 ــ 40% من قيمة الضرر. فيما فُعِّل مشفى البر كاملاً. أما مشفى حمص الكبير، فقد ثبت تضرره معمارياً فقط، ما يسهل إمكانية تأهيله، بحسب مسؤولي المدينة. مدينة المعارض في أطراف الحي، التي تضم 600 محل تجاري، تعاني من بعض الأضرار، غير أن المركز التجاري عاد إلى العمل بعد ملئه بجميع المواد الاستهلاكية. وبخروج المسلحين، فإن الحي يحتوي على 3500 عائلة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. فيما ترجيحات المحافظة تتحدث عن 1500 عائلة دخلت الحي في الأسبوع الأول من السماح بدخول المدنيين إليه، وذلك وسط تقديرات بتعداد سكاني، قبيل مغادرة المسلحين، يقارب 40 ألفاً.

صلاة الجمعة بحماية الدولة

المكان: جامع فاطمة، في حي الوعر. الزمان: صلاة الجمعة الأولى، بعد رحيل المسلحين. بانتهاء مدير أوقاف حمص كلمته في جموع المصلين، أفسح الدور لمحافظ حمص طلال البرازي أن يقول ما أرادت الدولة السورية أن توصله إلى الأهالي.
وبحضور 1200 مصلٍّ، أثنى البرازي على شجاعة الأهالي الباقين في الحي، رغم كل ما مرّ عليه، لتتحول الجلسة إلى ساعة متواصلة من المداخلات «المواطن يسأل والدولة تجيب». هكذا يقفل البرازي ملف الحرب في أحياء المدينة، التي تسلّم زمام الأمور فيها، وغبار المعارك يقلق أهلها. وبالثقة ذاتها يستقبل عائلات خرجت من الوعر، وفق التسوية الأخيرة، نحو جرابلس الحدودية، غير أنهم أقفلوا عائدين إلى حمص، بعد تبيّن ملامح إقامتهم الجديدة.

أمراض جلدية ومساعدات روسية

في أحد المحال التجارية في الحي يجيب صاحبه عن سؤال سعر باقة البقدونس: «250 ليرة»، أما سعر البصل الأخضر فهو 125 ليرة. عادت الوعر إلى «الزمن السوري»، بعد مرحلة من تضاعف الأسعار واحتكار البضائع. يمكن أن تلحظ، لدى «السمان»، أجود أنواع الخضر والفواكه الطازجة، كما لو أن الحرب لم تمر من هُنا. فيما تتشجع جارته، أم محمد، على الحديث عن المرحلة السابقة. «كنا في سجن ظالم»، تقول. وتضيف: «كانوا ينظمون لنا أوراق خروج، تدعى إذن زيارة. يمكن من يرغب منا في الخروج من الحي لمقابلة أقاربه، أخذ مهل زمنية محددة من قبلهم، والعودة خلال الوقت المذكور في الورقة». خرجت المرأة مرات عدة لزيارة أقاربها في دمشق، وفي أحياء حمصية أُخرى، غير أنها لم تستجب لنداءاتهم البقاء خارج معارك الحي، فقد أصرت على العودة إلى منزلها. تدلّنا على مركز توزيع مساعدات من قبل القوات الروسية. في مشفى الوليد تركزت قوة روسية تقوم على حماية فريق طبي روسي، وتعنى بتوزيع مساعدات غذائية لمدة يوم واحد. وبحسب القيّمين على الحملة، فإن يوماً واحداً كان كافياً لتوزيع 500 سلة غذائية، تحت عنوان «مساعدة إنسانية من الأصدقاء الروس لأهالي الوعر». لا جدول زمنياً لخروج الروس من الحي، غير أن وجودهم رمزي على الحواجز. عدد من الرجال يبتسمون للمارين، بالتزامن مع اطلاع العناصر السوريين على البطاقات الشخصية.
وفي حديث لـ«الأخبار»، ذكر أحد الأطباء الروس، العاملين ضمن حملة المساعدة أن معظم الأمراض التي يعاني منها مدنيو الوعر تتعلق بالمشاكل الجلدية، وأمراض المفاصل لدى النساء. ويلفت الطبيب الذي رفض ذكر اسمه، أن الرعاية الطبية الضعيفة أثرت سلباً في بعض الحالات. وخلال يوم واحد جرى الكشف على ما يقارب 60 شخصاً ضمن المركز المؤقت، الذي يضم أطباء روساً من مختلف الاختصاصات وممرضات.